كل شىء وارد فى عالم السياسة، فلا خصومة دائمة ولا بطولة دائمة أيضا، يحتاج الساسة أن يتجاوبوا مع الريح خصوصا إذا كانت عاتية وآتية من كل مكان. الساسة المخضرمون يعرفون ذلك ويعرفون على وجه الدقة من أين تهب الرياح؟ وبأية سرعة تأتى؟ ومتى يمكنها أن تكون ريح صرصر عاتية، يعرف الساسة من ذوى الخبرة أن أشجارهم ليست بالقوة الكافية التى تجعلها تتصدى لتلك الرياح أو حتى أقل منها.
فى عالم السياسة يصبح بعض الساسة رموزا وطنية متماسكة، يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم لن يتراجعوا ولكنهم للأسف وبفعل السياسة ولعلمهم بأن السياسة مجرد مغامرة محسوبة فإنهم يتراجعون، ولكن بلطف وبأدب، وتسعفهم فى ذلك طوابير (الكتبة) ممن لديهم القدرة على تسويق التراجع على أنه ليونة، والتنازل على أنه عقلانية، وربما الهزيمة على أنها انتصار بكافة المقاييس.
فى ظل ما سبق يمكننا فهم الإفراج المفاجىء عن أيمن نور بعد ما تصدت الحكومة لكل المحاولات حتى القانونية منها أمام المحاكم للإفراج الصحى عن أيمن نور. لماذا الآن؟
الإجابة المتوفرة حتى الآن هى أن الزيارة إلى أمريكا هى السبب فى الإفراج عن نور فى هذا التوقيت؟ لم تسمح لنا السلطة فى مصر بتفسيرات أخرى، فقد ظلت السلطة ترفض كافة التوسلات والطلبات التى أرسلت إليها لمنح نور الإفراج والعفو عنه فى المناسبات التى يتم فيها عادة العفو عن المساجين، والسلطة فى مصر رأت أن سجن نور وإدانته هو رسالة للآخرين، ورغم قسوة الرسالة إلا أن أيمن نور لم يتوقف عن رفضه وبإصرار لتلقى الرسالة وكذلك فعلت زوجته التى تستحق التحية، رغم ما نالها من سهام البعض القاسية والقاسية جدا.
وحتى زيارة وزير الخارجية أبو الغيط المفاجئة والقصيرة لأمريكا زادت من شكوكنا فى جدوى الزيارة وأسبابها، وهل كانت بالفعل زيارة عادية أم استدعاء على شكل دعوة مهذبة لساعات لتسليمه الطلبات الأمريكية والتى نشرتها بعض الصحف الأمريكية كشرط لتحسين العلاقات بين البلدين وقبل استقبال واشنطن للرئيس مبارك.
نحن أمام مقايضة سياسية – وهذا أمر طبيعى – الإفراج عن نور مقابل البدء فى تحسين العلاقات المصرية الأمريكية، قد يرى البعض الأمر أنه معيب، ولكن كما ذكرت فإن عالم السياسة أشبه بعالم السيرك يقفز فيه الساسة من مكان لآخر وفقا لمعطيات الليونة والقدرة على الحركة، وعلى الهواة أن يتنحوا جانبا، فالبقاء فى عالم السياسة يتطلب خبرة وقدرة على القفز فوق الحواجز لتفادى المصيدة أو (الخية) التى ينصبها لنا الآخرون، كما ذكر وزير الخارجية أحمد أبو الغيط.
قد يرى البعض فى المقايضة التى حدثت والمقايضات التى قد تحدث عيبا ودليلا على الفشل فى إثبات الاستقلالية أو تبنى سياسة شراكة مع القوى العالمية أو حتى الإقليمية، لكننا أمام واقع يمنحنا بعض الأمل فى أن تلين قناة السلطة، وأن تعتمد سياسة أقل غلظة فى مواجهة خصوم سياسيين لا يملكون سوى رأيهم وقلمهم.
وحتى لا تأخذنا المفاجأة التى حدثت أو تلك التى ستحدث قريبا، فإن متطلبات المرحلة المقبلة واستحقاقتها يعنى أننا أمام ثمن لابد من دفعه سواء كان على شكل إفراج عن متهمين، أو السماح بالعودة لمبعدين، أو حتى التحاور مع خصوم سياسيين. ثم سيأتى من يقول لنا إن هذه القرارات التاريخية إنما سببها الرغبة فى مزيد من الانفتاح على المجتمع وتشجيع الحريات وتأسيس ديمقراطية عظيمة (ولكن متدرجة)، لا ندرى كم قرن تحتاج؟
الحكمة والحنكة السياسية تستوجب من الساسة الكبار أن يعيدوا قراءة المشهد السياسى وبتأن شديد، وألا يسمحوا لأحد من الجوقة أن يقدموا تفسيراتهم (التاريخية) للمشهد الجديد. أتمنى ألا نضطر لدفع أثمان غالية من أوطاننا لزيارات مقبلة هنا أو هناك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة