إذا كنت تحب مصر وأنت لا تعرفها، فحبك عرضة للاهتزاز ومشاعرك الوطنية خاضعة لموجات المد والجذر، ومن الناس من يردد الأغانى والشعارات لكنهم أول من يستجيبون لدواعى اليأس والإحباط، إذا ما تعرضوا لمشكلة أو صادفوا أزمة فساد أو ظلم، فنراهم يبررون خذلانهم لمصر بالعقبات التى اعترضت طريقهم، ولسان حالهم يقول: (البلد دى ما تستاهلش).
أما إذا كنت ممن يعرفون مصر فحبك سيظل راسخا كالجبال لأن المعرفة بالوطن هى الحبل السرى الذى يغذى جنين المشاعر قبل أن تسعى على الأرض.
والمعرفة على هذا النحو لا تتطلب– فحسب- مجرد وعى وإدراك للتاريخ والجغرافيا السياسية والسكانية والثقافة الوطنية والشعبية، بل تجعلك فى حالة وصل كامل مع مكوناتها وعناصرها وعندها ستدرك مفاتيح روحها ومكامن قوتها، وستعرف ساعتها أن مصر ليست النظام السياسى وأن الوطن لا يمكن اختزاله فى حكومة تشخط وتنطر، ومعارضة تكشف رأسها كل صباح على السلالم وهى تدعو على السلطة بالويل والثبور.
مصر أوسع وأكبر وأطول وأعرض وأجمل وأبهى من كل ذلك، تستطيع إذا كنت راغبا فى الوصل معها أن تراها بساطا سندسيا من نافذة القطار وشواطئ من الفضة فى امتداد السواحل.
فحينما تكون فى القاهرة تجدها عند عربة فول أمام الحوض المرصود بالسيدة زينب وعند الرفاعى وسوبيا الرحمانى، أو خارجة من سوق الناصرية لتصلى المغرب فى السيدة نفيسة أو تشرب شايا أخضر فى مقهى الفيشاوى، تتبع خطوها وهى تطوف بالقلعة والمقطم ومسجد صلاح الدين وبرج القاهرة، انتظرها عند السلطان حسن والرفاعى وهى خارجة لتوها من الحمامات والأسبلة القديمة، تأملها عند الأهرام وفى مقياس الروضة والكنيسة المعلقة وأمام جامعة القاهرة، تناول معها حمص الشام على كوبرى عباس وأرجوك أن تصحو مبكرا لتشاهدها فى وردية حلوان والمحلة وكفر الدوار ونجع حمادى وفى مراكب الصيد، تستطيع أن تسافر بين ثنايا روحها العنيدة لتراها تنحت من صخر أسوان بيوتا وسدودا وبشرا، راقبها جيدا فى الأقصر تسعى بين المسجد والمعبد، تهرول فى طريق الكباش قبل أن تتوضأ من نور سيدى أبى الحجاج، ليتك تصحبها فى زيارة عرب الهوارة والمطاعنة وجهينة والرزيقات، لا تنسى فى الإياب المرور على متاحف وآثار ومآذن وكنائس ونخيل مصر العليا، وعندما تصل العاصمة اركب فورا أى قطار متجه إلى بحرى، ستجد مصر تنتظرك فى الشرقية عند قرية عرابى (هرية رزنة) سَلم على الأحفاد، انظر إلى وجهك فى بئر السيد المسيح عند تل بسطا، اجلس على شاطئ بركة العباسة واقرأ الفاتحة لعبد العاطى وسليمان خاطر، وعليك أن تولى وجهك شطر المنصورة، ترى مصر صفصافة بجدائل خضر وظل كالحرير، وفى دار بن لقمان ومع فلاحى بهوت تشعر أن جمال المنصورة بالمقاومة يزيدها فتنة وحضورا، ولا تنس نصيبك من دمياط صناعة وصيدا وحلوى، ثم اتجه فورا لمصابيح القناة، قّبل الأيادى فى بور سعيد، وفى الإسماعيلية قّبل التراب الذى امتزج بدم الشهيد عبد المنعم رياض فى المعدية نمرة 6، وفى مسجد الغريب بالسويس الحق بصلاة الجماعة خلف شيخ المقاومة حافظ سلامة، ليتك تعبر الآن سيناء الفيروز لتأكل تينا وزيتونا وتمرا وتكلم الله والأنبياء من فوق الجبال، هل وصلت الآن الإسكندرية وتشربت سحر غمازات بنات بحرى؟ هل تمددت على الشواطئ من المعمورة إلى مطروح حيث استقبلتك مصر مع الصيادين فى مرسى سيدى بشر قبل أن تصلى ركعتين فى سيدى المرسى.
السفر فى مصر وإلى مصر طويل وممتد فى الزمان والمكان وهو معرفة وعرفان يجعلنا نكرر فى كل مرة وكأننا نسبح (والله مصر تستاهل).
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة