أتساءل، كلما انزلق البعض فى المجتمع، إلى أنفاق الكُره الطائفى، عن مدى وجود دولة فى مصر. وتأخذنى التساؤلات، حول مدى ترسخ المبادئ الإنسانية لدى الجميع. بل ويأخذنى الحدث إلى التساؤل حول مدى فهم البشر لدينهم وعُمق معانيه السامية. فأن تكون هناك مراكز قوى سياسية أو إقتصادية أو اجتماعية، فإن هذا مفهوم، فى الكثير من المجتمعات، وبداخل الكثير من دول العالم، ولكن أن يُطلق العنان، لمشاعر الدين لتصبح قبلية عنصرية ومُشكلة لمركز قوى، وتقف الدولة "مُراقبة" للحدث، دون حراك، فإن هذا يُعد أغرب من الخيال، خاصةً وأن تلك الدولة ذاتها، هى التى تفُض التظاهرات ضد أمن النظام فى ساعات وربما دقائق معدودة، وتكتشف مؤامرات دولية مثل تنظيم حزب الله فى وقت قياسى، مما يدل على قدراتها وإمكاناتها الفائقة!
لقد أقامت الدولة فى أواخر التسعينيات من القرن المنصرم، وعبر إعلامها، حملة ضارية، لنشر فكرة أنها تُحسن الأوضاع فى الصعيد، ضد ثقافة الثأر والطائفية، حتى أننا هللنا لها، لأن تلك كانت خطوة متأخرة ولكنها كانت مرغوبة للغاية على الطريق لبناء الدولة الحقيقية! إلا أن ما يحدث كل فترة من تقاعس فى تناول تلك المسائل من ثأر أو فتن طائفية، تبدأ بأمور لا علاقة لها بالدين أساساً، يدل على أن الدولة تعانى فكر "العزبة" ولا تُشكل دعاويها للقضاء على الفتن وثقافة الثأر، إلا نوع من الدعاية الجوفاء!
ولا يمكننى أن أفهم أن تكون الدولة المصرية ذاتها، تغض الطرف عن الفتن الدائرة فى الصعيد، وتتقبل أن تقوم دولاً فى المنطقة، بزيادة جُرعة تلك الفتن، بينما الجميع يساعد فى وأد الفتن بين المسيحى والمسلم فى لبنان!! فلا يمكننى فهم أن تغض الدولة الطرف عن أمنها، وتجعل التهديد الطائفى للمجتمع يتصاعد، بينما هى، تؤكد يومياً على كونها تعمل ليل نهار على بناء الدولة المدنية القوية، وتنافس من تنافس على مستوى المنطقة، وتدعو لاستثمارات العالم فى بلد الأمن والأمان!! فما يحدث فى الصعيد ومؤخراً فى فرشوط، من فتنة لم تنطلق بالأساس من منطلقات دينية، يدل على أن هناك غموضا بحتا فى تناول ما يحدث من تصاعد حاد لتلك الفتن، وضرباً شديداً لفكرة المواطنة، التى يدعو لها النظام ذاته! وأقف مؤيدا لعودة هيبة الدولة وبقوة فى الصعيد، فى شأن وقف الفتن تماماً والقضاء على التقاليد الدموية هناك للأبد، وليس فقط بشكل وقتى!
ثم إن صياغة الخبر عبر الإعلام، وبدلاً من الحديث عن مواطن هتك عرض مواطنة، كما يحدث فى أى دولة تريد التنمية والتقدم والترفع عن صغائر الأمور، والحديث عن مسيحى هتك عرض مسلمة، ليدل على أن الإعلام المكتوب يعمل على أيقاظ الفتن وضرب السلام الاجتماعى للبلاد فى مقتل! فما حدث ليس له أدنى علاقة بكل المسيحيين ولا كل المسلمين، لأنه لم يمس من قريب أو بعيد صحيح الدين، وما هو إلا اعتداء من رجل يجب وأن يأخذ جزاءه عبر القانون، لطفلة يجب أن تُعالج مما تعرضت له من انتهاك لأدميتها وأن تقوم منظمات المجتمع المدنى للتدخل تحت رعاية الدولة والشرعية فى وأد تلك الأحداث على صعيد الوطن كله وليس فقط الصعيد! وهنا، يجب أن يتسم الإعلام بالحياد، لأننا لا يُمكن أن ننقد قناة الجزيرة، التى تستهدف مصر، بينما يوجد فيما بيننا إعلام يستهدف الناس على أساس تصنيفات محددة، وخاصةً لو أنها دينية!
إن ما حدث فى فرشوط من إعتداء على ممتلكات مسيحية، نظراً لاعتداء مسيحى واحد على طفلة مسلمة واحدة، فى إطار عمل عشوائى غير منظم، كما جاء فى الخبر إعلامياً، إنما يتنافى كلياً وجزئياً مع الخطاب الدينى المسلم، لأنه، يزر وازرة وزر أخرى! فالعقوبة يجب وأن تكون للجانى فقط، والعقوبة الجماعية، ما هى إلا أمر نقف جميعا ضده، كما يجىء فى استهجاننا لما تقوم به إسرائيل تجاه كل الفلسطينيين عندما يقوم فلسطينى واحد باستهداف الدولة العبرية، لأن المسئول عن الفعل، هو شخص واحد وليس المجموع! والغريب أننا نستهجن أن يسمى الإرهابى "بالمسلم"، على مستوى العالم، وندعو إلى تسميته إرهابى دون التعرض لدينه، ثم نسمى الجاني، من قبل البعض المؤثر، وليس الكل، فى أمر جنائى بحت، بالمسيحي!! أليس هذا، ما يُمكن أن يُسمى بالكيل بمكيالين؟!
إن كان لدينا سيادة للقانون، فكل ما هنالك عند حدوث جريمة مثل تلك، هو محاكمة الجانى ومعاقبته أشد عقوبة عما اقترف فى حق المجنى عليها، وينتهى الأمر بتنفيذ العقوبة لتكون رادعة لغيره من المواطنين، وينتهى الموضوع. أما أن يكون هناك انتقام من مُجمل الأقباط فى فرشوط بالصعيد لما جناه رجل واحد فاسد، فإن هذا مرفوض فى إطار الدولة، إن كان هناك دولة بالأساس! كما أن استمرار فكرة الحل الأمنى لهذه المسألة وجلسات الصلح "الوقتى"، واستمرار الشك المتبادل، ليعُد فشلا ذريعا من قبل الدولة، ويجب أن يكون هناك حل على المدى الطويل، يُمكنه أن يقيم دعائم الدولة على أساس فكرة المواطنة، خاصةً مع اتفاق كل القوى السياسية، بما فى ذلك المتأسلمين على فكرة المواطنة التى طرحتها الدولة من الأصل! إلا إذا كانت الدولة تعتبر فكرة الدولة كلها مسألة "تجريبية" وتريد وضع دعائم لتقويضها، وهو أمر غريب فى أن تحارب الدولة نفسها بأيديها ذاتها!
لا يمكننا أن نحارب الإنسان على أساس فكره وعقيدته، لأن هذا مضاد لفكرة الإنسانية فى حد ذاتها. وهناك أقليات مسلمة، رغم كبرها، فى دول كثيرة، مثل الهند على سبيل المثال، ولكن تلك الأقليات تتقلد أعلى المناصب فى الهند. ورغم صعود وهبوط، المشاعر الدينية فى كثير من الأحيان، فان الهند تحاول فى سبيل التنمية ودخول الاستثمارات المختلفة إليها، التوفيق بين مختلف البشر لديها على أساس فكرة المواطنة! فالمقارنة السريعة بين الهند، التى تملك أقلية مسلمة، أكثر تعداداً من سكان مصر فى مجملهم، تجعلنا نرى أن الرئيس السابق لها كان مسلماً، وهو الدكتور أبو بكر زين العابدين عبد الكلام آزاد، وهو من ساهم فى تطوير بلاده نووياً ويتصف باحترام الأديان الأخرى، كالهندوسية والسيخية!
ورغم حدوث مناوشات دينية من وقت لآخر، فإن الهند تعمل بشكل حثيث على اقتلاع تلك الأفكار الطائفية البغيضة، لأن اهتمام الهند الأول اليوم، هو بالتوحد الوطنى من أجل خلق دولة يتعايش فيها الجميع كقوة دولية معتبرة، وتترك ما لله لله! ولا يخفى على أحد، أن الهند تنافس الولايات المتحدة الأمريكية فى صناعة البرمجيات! فلقد تخلت الهند عن الفكر القبلى، فى سبيل النمو على مستوى عالمى، والتنافس مع القوى الكبرى فى التكنولوجيا والتنمية والتقدم، لأن هذا فى النهاية هو ما يبنى الدول وليس الأفكار العنصرية الخاصة بالمحاربة الأديان لبعضها البعض، وهى الفكرة التى ساهمت الولايات المتحدة فى تصديرها بالأساس من خلال مقال "صدام الحضارات" الشهير الذى كتبه صامويل هانتجتون، وتطبقه القوى المتطرفة المدعية الدين، على مستوى العالم، سواءً كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، فى إطار تلاعب واضح بالدين، وبتحريك الجموع لتحقيق أهداف من يجلس على كراسى الفتاوى الدينية لأى دين، أياً كان، وفى إطاعة غير مسبوقة للآجندات الأجنبية!
إن أحداث فرشوط، ليست فقط ضد التنمية أو التقدم، وليست فقط تدل على مراهقة فكرية، ولكنها تُشكل أيضاً خيانة للوطن وحضّ على تجميد عملية التطوير فيه، وضرب الوحدة الوطنية، كما كان الاستعمار يصنع قديماً، ليسود الساحة السياسية فى بلادنا!
إن ما يحدث حيال الأقباط فى مصر، فى أحداث "قليلة ولكنها دالة"، أو ما يحدث من أنشطة للتنصير أو لضرب الدين فى مقتل، إنما هى كلها أنشطة ضد الوطن وتدل على جهل الجُناة، وليست مستهدفة لدين أو أشخاص، كما يتصور البعض، لأن أى دين محفوظ بتعبد العابدين لله، وهو المحاسب لعباده وليس غيره! ولأن الأشخاص، ممن ينجرفون وراء صيحات المحرضين، إنما هم يساهمون فى ضرب استقرار الوطن وإرجاعه إلى قرون مضت!
إننا نريد دولة مدنية يسودها الحب والود، بين كافة المواطنين، والإنتماء للوطن والعمل على ترقيته إلى مصاف الدول الكُبرى! إننا نريد دولة قوية يسودها القانون وأن نحافظ على الشرعية وأن يكون بها ديمقراطية تسمح بتداول سلمى للسلطة يمكن من خلاله أن يختار المواطن من يمثله بحرية، دون تدخل من أى شخص أو مؤسسة أو أمن! نريد أن نبنى وطناً، ولكن هناك أصابع من الخارج والداخل، تعبث بأمن مصر لصالح آجندات خارجية، وباستغلال الدين وكل الأديان بريئة منهم، ويجب أن تُقطع تلك الأصابع، وأن نقف جميعا نظاماً ومعارضة ومستقلين، بل وكل مواطن لا يهتم بالسياسة أساسا من قريب أو بعيد، ضد من يعبث ببلادنا، لأن المرحلة القادمة، يجب وأن تكون مرحلة توحد وبناء وحل لمشاكل الجميع من أجل دولة مدنية حرة!
فلنقف جميعاً، ضد اعتداء العامة والدهماء، من الموتورين، على الإنسانية والدين والدولة! فلنقف ضد من يريد أن يضرب وحدتنا الوطنية، سواءً كان هذا فى فرشوط أو فى غير فرشوط! فلنقف ضد أى شخص يعادى مصر، فى الخارج أو الداخل. ولنختلف من أجل مصر، ويكون إختلافنا فكرى، سلمى ومحترم، لكى نأخذ بالفكر الأقرب لتغيير بلادنا للأصلح فى النهاية، دون أن نختلف أبداً على مصر، التى نملكها جميعا ونتمنى أن نراها فى أحسن الأحوال، برفعة كل أبناءها وبناتها وصون كرامتهم جميعاً، أياً كان دينهم. ولنرفع أيدينا عن الأديان ونتعبد فى سلام، لنعيد المتدينين إلى الأهداف الحقيقية لصحيح الدين!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة