ناهد إمام

مصر "الأنثى"

الجمعة، 25 ديسمبر 2009 07:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
منذ عام وبضعة أشهر وقعت فريسة حادثة نصب من أحد فاقدى الأخلاق والضمير، فقدت بسببها مسكنى الذى كان من المفترض أن يأوى صغارى، والذى كافحت لأجل إيجاده لاستقرار أولادى فى بلدهم بعد سنوات فى الغربة.

من يومها وأنا أتنقل فى شقق الإيجار الجديد، ولأنه رب ضارة نافعة، فقد التقيت أستاذى بكلية الإعلام منذ أن كنت طالبة فى أوائل التسعينات، الدكتور محمود خليل جاراً هذه المرة وليس معلماً بالجامعة، عندما سكنت بإحدى البنايات فى حى المعادى مؤخراً.

لم يكن جميلاً فحسب أن أجاور أستاذى عن طريق الصدفة وفقط، وإنما أيضاً أن يتقابل صغارى مع صغاره ويصبحون أصدقاءً وشركاءً فى اللعب، ويعرفنى أستاذى على غير العادة، حيث يتعرف الطالب أستاذه بسهولة، بينما لا يحدث العكس إلا نادراً غالباً، وهو أمر منطقى.

جيرتى لأستاذى العزيز حملت إلى ذاكرتى ذكريات نقاشات قاعات المحاضرات فى كلية الإعلام، التى أشهد أننى تنورت من خلالها كثيراً بآراء الدكتور خليل، الذى كان حريصاً ومميزاً فى إدارة حوارات مع الطلبة كمشروعات قادة رأى على غير عادة الأساتذة فى الكلية، حيث لم يكن الأمر لديه مجرد تدريس منهج وفنيات مهنة وكفى.

تعلمت منه المشاكسة أحياناً، والحرص على قوة الحجة والجدال لإظهار الرأى وتفنيد الحجج إلى آخر نفس، ولذا استسمحه هنا أن يتسع صدره قليلاً، فاستعير عنوان مقاله "مصر.. الأنثى"، الذى نشر الأحد الفائت فى الزميلة المصرى اليوم، وأخالفه الرأى فيما كتب بدافع من تقديرى لأستاذ طالما لم يفسد بيننا الخلاف فى الرأى للود قضية.

كتب الدكتور خليل مقاله، الذى دار حول فكرة أن مصر تشبه إلى حد بعيد الأنثى المصرية التى أخذت مكانة، دلل على تحققها بما أظهره التقرير الذى أعده مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء من أن المرأة المصرية تشغل حوالى 40% من الوظائف الإدارية العليا، بما يعنى أن سياسة تمكين المرأة فى المجتمع المصرى نجحت فما لم ينجح فيه الأمريكان أنفسهم، منتقداً المرأة المصرية، لأنها عكست الآية وحصلت على مكانة بلا دور، بينما الأصح والأشرف والطبيعى بالطبع أن يؤدى الإنسان دوراً ثم يحصل بمقتضى اجتهاده فى أداء الدور على المكانة، وهذا هو ما لم يحدث!

بالطبع صدمت بعد قراءتى بقية المقال، الذى دلل فيه دكتور خليل بنماذج مما يرى، وكان رأيى أن هذه النماذج التى دلل بها على ما يقول ليست المرأة المصرية الأنثى، التى تستحق تعميم الحكم عليها بأنها أصبحت تحظى بمكانة، ولكنها منقوصة، لأنها ببساطة بلا دور.

إننى أرى معه أن مصر الآن هى الأنثى.. نعم، ولكن هى الأنثى الأم التى تشتم ليل نهار بأقبح الشتائم فى مجتمع هو فى الأصل أمومى، للأم فيه كلمتها المسموعة ووضعها المعتبر ومكانتها المقدسة، ومع ذلك فالمرء يشتم فيه بأمه، وقد أصبح يشتم ببلده أيضاً لأن مصر هى.. الأنثى.

مصر.. الأنثى هى المزة العارية، والمنتقبة المتوارية، ولذا فمصر مثلهن فى نكبات متتالية، متخبطة، تائهة، لا تعرف لها هوية ولا ثقافة ولا بوصلة.

مصر.. الأنثى.. هى التى تتعرض للنصب والاحتيال مثلى، لا لشىء سوى أننى "أنثى" بالمناسبة، ولأن أوراقى الثبوتية لم تثبت أننى إنسان له حقوق مشروعة وشرعية، مصر هى الأنثى يا سيدى العزيز التى لو تركت سيارتك مرة واحدة فقط وعدت إلى بيتك فى ساعة متأخرة من الليل فى "ميكروباص" ستجدها إلى جوارك كانت تعمل من التاسعة إلى منتصف الليل لكى تعول أسرة وتفتح بيتاً.

مصر.. الأنثى هى شيماء الطالبة الأزهرية النابغة التى ذهبت إليها فى الفيوم العام الماضى لأكتب عن اكتشافها طريقة مبتكرة جديدة لحل المسائل الكيميائية، مصر هى الأنثى شيماء التى تحفظ القرآن ولديها ولدى جدتها وأمها إصرار على أن تصبح طبيبة أطفال، الجدة تريد أن تعوض ابنتها فى حفيدتها والأم تريد أن تعوض نفسها فى ابنتها وترجو الله أن لا تتم مساومتها وتخييرها بين اختراع الكيميا واختراع التقلّية، فهل التفت أحد لشيماء ولأدوارها التى تؤديها، والتى تخطط للقيام بها فى مجتمعها؟!

مصر هى آلاف الإناث اللاتى كافحن بجد للحصول على الدال نقطة فى سن الأربعين، والخمسين لأنهن تفرغن للتعشيش على البيوت وإنجاب الذرية، سبقهن من سبق، وتجاوزهن من أتيحت له مكانات بلا دور ولم يكن "أنثى"، هن الآلاف بحق ممن احترفن إمساك المرجع بيد، واليد الأخرى تهدهد رضيعاً، أو تخط حرفاً مثقفاً ينور الطريق ويمهده للخلف.

مصر هى الأنثى.. الطبيبة والمدرسة المنهكة التى لا ترى أسرتها سوى فى الإجازات الصيفية وإجازات الأعياد، لأنها مغتربة خارج الأوطان، بعد أن ضاقت بها الأوطان ورجال الأوطان، فتحولت إلى رجل يبحث عن وطن.

مصر هى الأنثى.. بل هن الآلاف ممن يحمل همّ الولد، ولأجل البنت تعانى الكمد، هى إيمان الموظفة بالمطار التى أرادت أن تهرب من تحكم الأب إلى حضن الزوج، فتحولت إلى كائن هوايته أن يكتب على نفسه إيصالات أمانة حتى يعتقها الحضن المر ولا يضرب ولا يهين ويتركها تعيش فى حالها، فى ضل الحيطة الأكثر أمناً.

مصر.. الأنثى، هى صباح التى دخلت أحد المستشفيات الخاصة لكى تضع مولودها فى الموعد الذى حدده لها الطبيب المعالج، تماماً كما حدد لغيرها الموعد نفسه فى مستشفى آخر، فزيادة الخير خيرين، ولم يكتفِ بذلك وإنما أوصى الطبيب المناوب أن يؤخر ولادتها قدر الممكن حتى ينتهى من المريضة التى يولدها فى اللحظة نفسها، لا لشىء سوى أن "الفيزيتة" من حقه وحده، فما كان من الطبيب المناوب، إلا أن قلب السرير بـ"الأنثى" لأن الجنين كان على وشك النزول، وجلس بدم بارد يلعب جيمز على الموبايل لكى يتلهى عن صرخات الأم التى شعرت حينها، كما حكت لى أن جنينها وصل إلى حلقومها وأنها كانت تختنق ببطء، وبمجرد دخول الطبيب الذى وصل متأخراً أرجع الطبيب المناوب سرير المريضة إلى وضعه الطبيعى للولادة، فسقط الجنين فوراً.. ميتاً، بعد أن ولد بالداخل واستنشق دماء المشيمة وابتلع فضلاته، وعلى الرغم من ذلك قبض الطبيب ثمن الولادة الميتة!

مصر هى الأنثى.. الدكتورة بنت الشاطئ، ونعمات أحمد فؤاد، وماما فضيلة، وسميرة موسى، والدكتورة رشيقة، وهند، وعزة، وحنان، وهويدا، ودرية، والحاجة أم أبو تريكة، وأم محمود سعد، وأم أحمد زويل.. فهل تجد لهذه الأسماء التى هى لا تمثل سوى واحد فى المليون من "أنثى" مصر مكانات بلا أدوار؟!

مصر.. الأنثى، هى الخير قبل الشر، والمظلوم قبل الظالم، والجيد قبل السىء، مصر.. الأنثى الأغلبية الغلبانة.

حنانيك يا د كتور خليل على مصر الأنثى، فمصر "الأنثى"، "مصر" و"الأنثى" فى انتظار رجل.. رشيد، يعين على أداء الدور، وينهض بالمكانة الحقيقية حتى تصبح مصر.. "الإنسان"... أنثى وذكر .. إنسااااااااااااااااان!






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة