لمن هم دون سنى، قد لا يعلمون شيئاً عن أحد الأئمة والخطباء الذى كان يعمل له ألف ألف حساب؛ لسعة علمه، وللسانه الحاد أغلب الوقت، بالإضافة إلى أنه كان بحق فريد عصره؛ فكان يجمع علوم السلف السابق، وملماً بأحداث ويوميات عصره وزمانه بدءاً من الأحداث السياسية الصاخبة فى هذا الوقت، انتهاءً بما يفرزه المجتمع من إبداع أدبى وصحفى وفنى ورياضى.
هذا هو الشيخ الداعية عبد الحميد كشك (رحمه الله) ولمن يعرفه من شباب الفيس بوك، فعليهم بكتابة اسمه على محرك أى بحث إليكترونى وسيشاهدون مئات الصفحات التى تتحدث عنه، أو عن كتبه، وأشرطة التسجيل التى تحمل صوته وخطبه المنبرية.
لكن ما الأمر الذى دفعنا لذكر الشيخ كشك فى هذا الوقت تحديداً؟ فى الحقيقة هناك سببان لضرورة ذكره، السبب الأول هو أن هذا الشهر رحل فيه شيخنا عن الحياة، ولا شك أن رحلة عطاء الشيخ عبد الحميد كشك تمثل نموذجاً للداعية الذى لم يترك حدثاً يمر دون التعليق عليه، سواء كان هذا الحدث سياسياً، أو رياضياً أو فنياً، وهو بذلك من الدعاة القلائل الذين تركوا بصمة واضحة فى مجالات الدعوة والوعظ والإرشاد وإن اختلف معه كثيرون.
السبب الثانى يتعلق بمقولة ذائعة الصيت يكاد يحفظها محبو الداعية ومعاصروه ومن نبعهم، فقد قال الشيخ كشك يوماً من فوق منبره بصوته الجهورى: دعونا الله بأن يرزقنا بإمام عادل فرزقنا بعادل إمام، يقصد بالقطع الفنان المتميز الزعيم عادل إمام. ولا عجب فى أن نذكر هذه الآونة الزعيم عادل إمام، لا بسبب افتتاحه أكاديمية الزعيم، بل بسبب المساجلات المعلنة وغير المعلنة بينه وبين الداعية الشيخ خالد الجندى وتصريحات كل منهما شبه اليومية فى الصحف والمجلات والبرامج الفضائية.
وأصبح هم هذه الأمة ـ قاطبة ـ منذ سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة هو اقتناص اعتراف، أو صيد فضيحة، أو إمساك ذلة على شخص آخر، ولو كنت مهتماً بالأمر هذا لأفردت فيه كتاباً يتناول ما يسميه رجال المرئيات صيد الكاميرا. وبدون العودة إلى تفاصيل الخلاف بين الزعيم والداعية لأن عموم مصر وضواحيها قد عرفته، أو سمعته، وما أكده الطرفان من حقائق، وما نفياه فى اتصالاتهما الهاتفية ببرامج التوك شو.
ولو نظرنا إلى الموضوع نفسه، فهو فى رأيى لا يستحق أن تفرد له مساحات كبيرة فى الصحف والمجلات والقنوات الفراغية أى التى تناقش الفراغ الذى يبحث عن حيز له. لاسيما أن الموضوع والخلاف القائم أصبح فرصة رائعة لهواة المجموعات على الفيس بوك من أجل مساندة أحد الطرفين.
والعلاقة ووجه الشبه بين الزعيم والشيخ كبيرة وارتباطية وموجبة، فكلاهما يعشقان الكاميرا، وهو أمر محمود وليس مذموماً، ولا أظن أن أحداً يستطيع أن ينكر دور الفنان عادل إمام كأحد مؤسسى دولة الكوميديا فى العالم العربى، العالم العربى الذى لا يزال مصراً على سحب البساط من تحت أقدام مبدعى مصر. وعلى الوجه الآخر لا ينكر أحد كاريزما الداعية الشيخ خالد الجندى الذى استطاع بها استقطاب عدد لا بأس به من الشباب والنساء والفتيات للاستماع إلى دروسه الشيقة، وحكاياته الممتعة، كما أن الله قد حباه بطلة جذابة على شاشة الفضائيات مما تجعله الأكثر إقناعاً بعد الأستاذ الداعية عمرو خالد، بالإضافة إلى ما يتمتع به الشيخ خالد من سعة علم ومعرفة وإطلاع مستدام.
ولكن حينما تأملت ما تحمله ذاكرتى من مقولة فضيلة الشيخ كشك فى دعائه بأن يرزقنا بإمام عادل، وجدتنى أدعو الله مخلصاً بأن نعود كما كنا أصحاب الريادة فى شتى المجالات. ولأن اللبن أصبح مرتفع الثمن فى ظل حكومة الدكتور نظيف فلا أستطيع أن أبكى على اللبن المسكوب لأنى لا أستطيع شراءه، وما وصلنا إليه من تصرفات متواترة لا تنقضى تجعلنى أبكى على أى شىء آخر.
ورحم الله زماناً كان فيه فضيلة الشيخ الإمام محمود شلتوت علماً وقطباً وإماماً بليغاً، وفقيهاً محدثاً، وفيه الفنان فؤاد المهندس ناظر مدرسة الكوميديا، وعبد المنعم مدبولى مدير المدرسة، ولم نسمع فى عصرهم حكايات ملفقة ومداخلات هاتفية وسيديهات مسجلة، ولذلك بقى الإمام شلتوت، وبقى الفن الجميل.
والحكمة تقتضى أن نجتهد سعياً وراء دعاء الشيخ كشك رحمه الله، فهذا يعمل فى فنه الذى جعله للإنسانية مؤكداً أن أعماله ضد الإرهاب هى أعمال قومية ووطنية، فعلى الزعيم أن يستمر فى إبداعه للإنسانية كما يزعم، وعلينا بعد ذلك أن نضع فنه وما يقدمه فى ميزان النقد، ولعله أدرك أن من مقومات سقوط وزير الثقافة فى انتخابات اليونسكو تلك الأفلام الهابطة التى تدغدغ مشاعرنا ولا تقدم فضيلة، ولا تصنع هوية.
أما بالنسبة للشيخ الداعية الأستاذ الجندى وهو لديه رسوخ فى العلم دون مجاملة، وكاريزما يحسده عليها أبناء جيله من الدعاة الجدد، وأناقة تجعل للبعض ميلاً فى تلقى دروسه، أن يعمل ويجتهد لعلو هذه الأمة، التى تتوالى الضربات على وجهها ولا تفيق من سباتها، بل تفيق على استفتاءات غربية بشأن محو معالم الإسلام كالمئذنة والنقاب والحجاب والتعليم الدينى.
وفى هذا الصدد أدعو الله أن يجزى الشيخ الإمام محمد عبده عنا خيراً، فقد كان عالماً، وشيخاً، ومفكراً، وداعية، وواعظاً، وأديباً وشاعراً أيضاً. ولو وضعنا الإمام محمد عبده فى كفة، وفى الأخرى بعض وليس كل علمائنا المعاصرين لرجحت كفة الإمام محمد عبده، لأنه تبنى منهجاً فكرياً سار فى ضوئه وعمل على تحقيقه، ولم يترك نفسه فرصة سائغة لكل من هب ودب، لذلك رفعه الإسلام إلى أعلى درجات الاحترام والتقدير والهيبة، لأنه أخلص الدعوة والهمة.
وأخيراً، إذا كان الله قد قيض لنا عالماً داعيةً، وفناناً زعيماً، فلهما ما سارا عليه، ولنا الله وحده.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة