يصر البعض أن مصر المحروسة لم تعد من دول العالم الثالث المتنامى، وأننا شعب استطعنا أن نخطو خطوات واسعة نحو التقدم العلمى والتكنولوجى، ولا شك أنهم بفضل نعمة فقدان الذاكرة التدريجى المستدام قد تناسوا خروج جميع الجامعات المصرية من التصنيف العالمى ذات الجودة.
والحقيقة الجلية هى أننا لم نعبر بعد الفجوة الرقمية، وبرزخ العالم المتنامى، وهذا بفعل العقلية الاستهلاكية التى نتسم بها دون غيرنا، بل وأصبحنا رواداً فى ترسيخ العلاقات الاستهلاكية بين بعضنا البعض.
والمجتمع الاستهلاكى مقولة برجوازية نشأت فى ظل تعاظم الثروة العلمية فى البلاد الرأسمالية المتقدمة، وأبرز سمات هذا المجتمع غياب الصراع والمنافسة بين أفراده، وحدد علماء الاقتصاد صورة الصراع بأنه نزيه وشريف دون احتكار أو تمييز.
أما بالنسبة لمجتمعنا المصرى فهو استهلاكى بفطرته، وهذه الفطرة الاستهلاكية تنطلق من إخفاق تاريخى قديم، يمكنك أن نكتشفه بعد أى هزيمة لمنتخبنا الوطنى فسرعان ما ننسى الهزيمة والمباراة واللاعبين أنفسهم ثم نبادر بالاهتمام ببطولة الدورية المحلية الصنع.
فمجتمعنا الاستهلاكى مؤمن بقاعدة أن الكل قادر على الاستهلاك، والكل يطمح إلى الاستهلاك، وطبعاً ما يعنيه بالاستهلاك هو استهلاك واستغلال ما ينتجه الآخرون.
الأخطر فى الأمر أن فطرة الاستهلاك لم تقتصر على الجانب المادى من الحضارة فقط، بل امتدت لتشمل الجوانب الثقافية والفكرية والفنية، والحمد لله للرياضية أيضا.
وإذا أردت أن تتعرف على حقيقة أكذوبة بعض الخبراء والمراقبين الذين يصرون أن المحروسة تخطت حدود البلدان النامية التى تسعى للحاق بركب المدنية، فهناك مجموعة من المؤشرات التى تؤكد أننا مازلنا دولة تنتمى للعالم الثالث المتمركز بالقارة السمراء.
فأنت مثلاً تقود سيارتك منذ عشرين سنة بمهارة، وتعرف طبيعة شوارعك التى تسير بها، وطرقك غير الممهدة بفعل الحفر والفحت والرصف، لكنك لا تفطن لسر تركيبها وصناعتها.
وإذا ظننت أيها القارئ أننى سأحدثك عن ثقافة شعب المحروسة الاستهلاكية من زاوية اقتصادية، وسرد أرقام دون معنى، وذكر أسماء المؤشرات المالية، وبيانات وجداول إحصائية ومعدلات نمو، فقد أخطأت الظن.بل سأشير فقط- دون تحليل- لظواهر وسمات أصبحت سائدة فى مجتمعنا المصرى المعاصر.
تلك الظواهر هى التى كرست لشيوع ثقافة الاستهلاك بدءاً من سرقة الألحان الموسيقية انتهاءً بالأبحاث العلمية الأكاديمية.
والذى يثير غيظ كل من يحب هذا الوطن المحروس أن هؤلاء المراقبين والخبراء المستهلكين يصرون على استخدام عبارات وألفاظ استهلاكية مثل اقتباس، وسرقة، وتناص، ووعى جمعى، وغيرها من الكلمات التى تؤيد وتؤكد أنهم محتجزون بقاعة كبار المستهلكين.
المهم أن الذين أسهموا- بقصد- فى تكريس ثقافة الاستهلاك قد حجبوا جيلاً كاملاً من الظهور والإبداع والتفوق، وإن جاز لنا استخدام مصطلحات الوسط السياسى فإنهم يمثلون الحرس القديم أروع تمثيل، فهم يحرسون شيئاً ما يخافون عليه من السطو والفقد والضياع، وهم حرس قديم لأنهم يرفضون أن ينضم لهم حارس جديد، لكنهم لو أجهدوا أنفسهم قليلاً وتأملوا ما يحرسونه لأيقنوا أنهم سيذهبون مع حفيظتهم إلى ضياع ونثار.
إن هؤلاء توقفوا عن الإبداع منذ سنوات ليست بالقليلة، وإذا سألت أحدهم من المختصين بالموسيقى عن أغنية جديدة سيقول لك أنها مسروقة من أغنية للرائعة نجاة الصغيرة، وإن سألت آخر عن رأيه فى قصيدة لشاعر ناشئ سيبادر بإصدار حكم يفيد بأنها مقتبسة من ديوان كزهر اللوز أو أبعد لمحمود درويش.
أما بالنسبة للأبحاث والدراسات الأكاديمية فحدث ولا حرج، فمعظم القائمين على تحكيم الأبحاث العلمية هم النموذج الأمثل للحرس القديم، فإن حدثتهم عن منهج جديد وفعال فى التفكير سيحكمون عليك بالإعدام وربما بالكفر مثل ما حدث للمفكر الدكتور نصر حامد، لأنك خرجت عن ناموسهم المتجمد، وإن قدمت لهم دراسة مغايرة متبنياً فيها أساليب واتجاهات معاصرة بالتأكيد سترفض الدراسة وستتهم بأنك أحد عملاء أمريكا، رغم أن أمريكا مليئة بالعلماء دون العملاء.
وإنك لتجد- أيضا- فى مصر الاستهلاكية السيادة الثقافية المطلقة لمشايخ ودراويش الفضائيات، يظهر الواحد منهم (وهو غير خريج لأية مؤسسة دينية) وكأنه شيخ زاوية من الزوايا التى كانت منتشرة أيام المماليك، وما أدراك ما شيوخ الزوايا بعصر المماليك؛ قهر وقمع واستبداد بالرأى وحجر على الآخر وتسفيه لعمل الآخرين، وهذا ما يصنعه بعض نجوم الحكايات الفضائية الذين امتدت سطوتهم فوق المنابر الأكاديمية، فتراهم يمجدون ويعظمون فكراً قد يبدوا تقليدياً واستهلاكيا، وكأنهم يتشبهون بمنتجى أفلام الثمانينيات حينما كانوا يحجرون على فكر ورأى الآخرين بمقولة " الجمهور عايز كده".
فتجدهم يسهبون فى حكاياتهم المعادة والمكرورة والمسموعة منذ اختراع الراديو، واستهلاكهم لموضوعات عذاب القبر ونعيمه، والآخرة، وأخيراً النقاب، والنتيجة لكل ما سبق من استهلاك هو شيوع قيم التواكل والصبر، وهذا ما حدث بالضبط أيام الحملة الفرنسية على مصر، يعنى أن ما يحدث الآن كما ذكرت هو ميراث لإخفاق تاريخى قديم.
إن الدرب ولا ريب وعر، والمدرك لمنطق الأحداث فى مصر سرعان ما يكتشف أنها سريعة ومرهقة ومتواترة، حكومة تؤكد كل ثانية أنها تبنى وتشيد وتعمر وتعين وتوظف وتسكن وتعلم وتعالج، وشعب يشتكى ويتألم ويتضجر ويضرب وتظاهر، ومحظورة تندد وتشجب وتحرم وتحلل، وكوتة بانتظار دخولها مجالات العمل والسياسة. وما بين البناء والدخول قسراً نجد حكومة وشعباً ومحظورة وكوتة.
ويا عزيزى كلنا مستهلكون.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة