قالوا له إنهم بمحاذاة "الحديبية" ـ حيث نزل الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته عام 6 هـجرية معتمرين ـ فطلب من السائق أن يتوقف، ثم ترّجل، وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمها، ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب: "والله إنى لأشم رائحة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا التراب الطاهر".. وعلى مدى نصف ساعة بذل مرافقوه جهدهم كله فى تهدئة روعه، ثم واصل الركب سيره إلى مكة المكرمة حتى دخلوا الحرم من باب "السلام" وتوجهوا نحو الكعبة.. فاستلم الحجر وقبله.. ولم يغادر مكانه، بل ظل يتنهد ويبكى ويُقبل الحجر حتى وقفت مواكب المعتمرين انتظارا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه.
هل تخيلت هذا الرجل الذى أضاء النور قلبه فنسى العالم واستغرق فى بكاء ونحيب؟ هل حددت بعض ملامحه؟!
عموماً، هذا هو الأديب الكبير طه حسين، الذى نحتفل بذكرى وفاته (28 أكتوبر 1973).
والقصة البديعة للكاتب محمد عمارة فى مقال رائع حكى فيه عن زيارة عميد الأدب العربى للبيت الحرام عام 1955، بصحبة نخبة من أدباء مصر ومفكريها، وعلى رأسهم العلامة الشيخ أمين الخولى الذى كان رفيق العميد فى تلك الرحلة.
وعلى موقع جوجل عليك ـ فقط ـ أن تكتب اسم طه حسين، لتجد مئات "اللينكات" التى تتهم العميد بالكفر والزندقة، ومن العجيب أننا نغفر للعرايا وننسى خطاياهن.. وقبلاتهن الساخنة، لكننا نستكثر على هذا الرجل كلمة طيبة!!، ليس مطلوباً من قساة القلب على العميد أن يحتفلوا بكتاباته، ولا أن يقرأوا كتاباً من مؤلفاته، وليس مطلوبا منهم الاعتراف بمعجزة هذا الضرير العظيم، فقط.. عليهم أن يتوقفوا عن اتهاماتهم الجارحة التى أصبحت ظاهرة جديدة فى فضاء الإنترنت.
وعلى باب النبى صلى الله عليه وسلم وقف شاعرنا الكبير نزار قبانى ـ المتهم بالكفر والزندقة أيضاً ـ خجلاً حائراً: هل من حقه أن يدخل رحاب المصطفى والذنوب تثقل كاهله؟.
وسئل ابن حنبل ما الإيمان؟: فقال: الخجل من الذنوب، ويكتب نزار قبانى قصيدة رائقة عذبة يتوجع فيها ويتألم:
أدنـو فأذكر مـا جنيـت فأنثنـى/ خجلاً تضيق بحملـى الأقـدامُ
أمن الحضيض أريد لمسا للـذرى؟/ جل المقام فـلا يطـال مقـامُ
وزرى يكبلنى ويخرسنى الأسـى/ فيموت فى طرف اللسان كلامُ
يممت نحوك يـا حبيـب الله فـى/ شوق تقض مضاجعى الآثـامُ
أرجو الوصول فليلت عمرى غابـة/ أشواكـهـا الأوزار والآلامُ
يا من ولدت فأشرقـت بربوعنـا/ نفحات نورك وانجلى الإظـلامُ
أأعود ظمئآنـا وغيـرى يرتـوى/ أيرد عن حوض النبى هيـامُ؟
كيف الدخول إلى رحاب المصطفى/ والنفس حيرى والذنوب جسـامُ.
أرأيت هذا الخشوع وتلك الكلمات الموجوعة الباكية الخجلة من نور النبى؟ ومع ذلك يا أخى يكتب البعض مؤلفات تحرق نزار قبانى وطه حسين وغيرهما فى نار جهنم، وتكوى أجسادهم فى لهيبها!!، وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتمارا، لكنهم عقلوا عن الله مواعظه فوجلت منه قلوبهم واطمأنت إليه نفوسهم وخشعت له جوارحهم، ففاقوا الناس بطيب المنزلة وعلو الدرجة عند الناس فى الدنيا وعند الله فى الآخرة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة