لأن الدين هو الطاقة المحركة للحضارة بفروعها المتعددة، كان لابد ألا تتحول عملية التعليم إلى حشو العقول بالمعارف والمعلومات أياً كانت نوعياتها ومستوياتها، وإنما كان من الضرورى أن ينظر فيها من حيث قدرتها على التغيير، بحيث ينهج الإنسان نهجاً خلقياً مستقيماً.
فالله عز وجل عندما وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصفه بأنه على خلق عظيم، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يؤكد أنه ما بعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق، وتصفه السيدة عائشة بأن خلقه كان القرآن. ومن هنا فإن الجانب الخلقى من الجوانب المهمة التى يجب أن تراعى فى عملية وضع المناهج التربوية كما يجب التركيز عليها.
والتربية الخلقية فى الإسلام ذات شقين: الأول هو الشق النظرى الذى يحدد الإطار الفكرى أو ما يصح تسميته بالنظرية الأخلاقية، كما تبدو فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. والثانى هو الشق العملى الذى يبين الممارسات العملية الأخلاقية فى عالم الواقع.
لقد قدم الإسلام مبادئ أخلاقية عامة تأتلف فيما بينها لتكون فى مجملها نظرية أخلاقية تشكل القاعدة الأساسية لكل الممارسات العملية، وتتمثل النظرية الأخلاقية فى المحددات المعرفية التى تتمثل فى العلم والمعرفة، كما تتمثل فى المحددات السيكولوجية التى تتعلق بالإنسان والطبيعة البشرية كالإلزام والمسئولية والحرية وإرادة الاختيار.
وتتجسد النظرية الأخلاقية فى الإسلام ـ أيضاً ـ فى المحددات الجزائية التى تتعلق بجزاء الإنسان على أعماله من ثواب أو عقاب. أما المحددات العملية فتبين مدى اتساق سلوك الإنسان مع منظومة القيم الأخلاقية الإيجابية التى أمر الله بها من ناحية، واتساقه مع منظومة القيم السلبية التى نهى الله عنها من ناحية أخرى. فالممارسات العملية هى المحك الوحيد لاتساق سلوك الإنسان مع النظرية الأخلاقية فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
ومما لا شك فيه وجود عدد من العوامل والأسباب التى تدفعنا للتأكيد على الأساس الأخلاقى للتربية فى الإسلام، من أهمها أن دراسة الأخلاق دراسة علمية دقيقة تؤدى إلى فهم أفضل لسلوك الأفراد والجماعات، وبالتالى القدرة على التعامل معه والعمل على تعديله للوصول به إلى مستوى معين أو لتحقيق أهداف محددة.
كما أن دراسة الجانب الأخلاقى فى الإسلام والتأكيد عليه تنطوى على أهمية كبيرة فيما يتصل بإعادة تكوين الفرد المسلم السليم الذى بعد عن الإسلام حتى أصبح فى كثير من الأحوال لا يحمل من الإسلام إلا اسمه، والذى خضع لتقاليد لا يعرف مصدرها، ولكنه يتبعها على أنها من الإسلام، وهى ليست من الإسلام فى شىء.
ولقد تفشت فى العالم الإسلامى ألوان من الرذائل، فتصور كثير من الناس، لاسيما غير المسلمين أن هذه الرذائل ترتبط بالإسلام مثل الجهل والحسد والبغضاء والطبقية والرشوة، وغيرها من الصفات الذميمة. لذا وجب على كل فرد مسلم ألا يقتصر على إبراز مبادئ الإسلام الخلقية فقط، لأن هذا لا يكفى لإعادة بناء الفرد والجماعة، بل لابد أن نجذب المسلمين إلى دائرة السلوك وفقاً لهذى المبادئ، وجذب المسلمين إلى دائرة السلوك الأخلاقى الإسلامى يحتاج إلى تكاتف القوى فى المؤسسات التعليمية والإعلامية والمجتمعية. وهذا يحتاج إلى مرشدين ومفكرين وتنويريين قادرين على ربط المبادئ بالسلوك، أو بمعنى آخر قادرين على تضييق الهوة بين النظرية والتطبيق.
ويتسم الأساس الأخلاقى فى الإسلام بالشمول، فدائرة الأخلاق والفضائل الخلقية ليست قاصرة على الفضائل الشخصية كما كانت عند فلاسفة اليونان ومن سار على نهجهم، بل اتسع مجال الفضائل حتى أصبح يضم مجموعة كبيرة من الفضائل، وأصبحت للأخلاق ثلاثة أبعاد تقوم عليها، بعد نفسى يرتبط بعلاقة الفرد مع نفسه، وبعد غيبى يرتبط بما يؤمن به الفرد من معتقدات ومثل دينية وغيبية، وبعد اجتماعى يرتبط بعلاقة الفرد مع أفراد مؤسسات مجتمعه.
وهكذا اشتملت دائرة الأخلاق الإسلامية على جميع أفعال الإنسان الخاصة بنفسه أو المتعلقة بغيره، سواء كان هذا الغير فرداً أو جماعة، أو دولة، فلا يكاد يخرج شىء عن دائرة الأخلاق فى الإسلام، مما لا نجد له مثيلاً فى أية شريعة أخرى.
ولا شك أن التربية الإسلامية التى ترتكز على هذه الأسس لابد وأن تتسم بالترابط والتكامل، والتضامن والتماسك، وأن الطابع المميز للمجتمع الإسلامى تنضبط مسيرة حياته بأحكام الشريعة، وتصلح أحواله بانتهاجه لمسلكها القويم، فقد صيغت شخصيته بالتربية الأخلاقية، فانطبعت بخصائص هذه التربية.
وأسس التربية الإسلامية هى التى تصوغ المجتمع المسلم وتنشئه تنشئة متكاملة العناصر، لا يطغى فيها جانب على جانب آخر، وإنما تتوازن فيها جميع القيم والأخلاق الإسلامية، للترابط الجذرى القائم بين القيم الأخلاقية والسلوكية، وبين القيم السياسية والعملية، بين تهذيب الروح وصقل الوجدان، وبين رقيق الشعور وتقويم السلوك، وبين ترشيد الممارسة العملية لهذه القيم فى الواقع المعاش على مستوى تدبير الأمور العامة.
ويرى جورج سارتون أن الدين الإسلامى كقوة فكرية جمعت قلوب الناس على التوحيد كان سبباً أصيلاً فى انتشار العلم الإسلامى الذى غزا العالم أجمعه، وعلى الأخص فى العصور الوسطى، وانتصار الدين الإسلامى ممثلاً فى العلم الإسلامى حدث كنتيجة حتمية لقوة العقيدة والإيمان كمصدر للطاقة المحركة لنشاط المسلمين، وللمنهج العقلى وقدرة المسلمين ـ آنذاك ـ على نقل وإعادة وتطوير دروس الماضى من خبرات الأمم المختلفة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة