هل الجمود الفكرى وحده هو الذى قيد بلاد المشرق وجعلها تفشل فى سباق الحضارة عندما قام الغرب بقفزته الكبرى نحو العصور الحديثة فى الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
القراءة المقارنة لتاريخ الشرق والغرب فى الألف سنة الأخيرة ترصد عنصرا آخر لا يمكن إغفاله فيما يتعلق بالحياة السياسية وعلاقتها بالحياة الفكرية.. فمن الغريب أن نكتشف أن بلاد المشرق العربى والإسلامى وعلى مدى أكثر من 1400 سنة كان تغيير السلطة الحاكمة فيها يتم بطريقتين أساسيتين.. الأولى تغيير من داخل النخبة الحاكمة نفسها سواء أكانت بمؤامرات الحريم فى القصر الملكى أو مؤامرات الأقارب داخل الأسرة الحاكمة أو انقلاب من النخبة العسكرية تستولى بمقتضاه على مقاليد السلطة.. والطريقة الثانية هى تغيير الحاكم بفعل غزو خارجى من دولة خارجية أو قوى نمت وتجمعت على أطراف الدولة لتنجح بعد ذلك فى غزوها أو غزو قلبها (كما فعل العباسيون مثلا فى انقلابهم على الأمويين).. وفى كل الأحوال لم يذكر لنا تاريخنا المشرقى على مدى ألف سنة وأكثر ثورة شعبية واحدة نجحت فى فرض إرادة القاعدة العريضة على القمة الحاكمة.. لا يوجد فى تاريخنا المشرقى تجارب مثل الثورة الإنجليزية أو الثورة الفرنسية أو الاتحاد السويسرى أو البرلمانات بمختلف أشكالها.. طبعا يمتلئ تاريخنا بحركات التمرد والخروج والخارجين.. ولكنها لم ترتق أبدا لتكون ثورات شعبية تؤدى لتغيير من القاعدة إلى القمة.. مجرد فورات عشوائية تقوم بها جماعات ذات طابع دينى أو قبلى أو فئوى تبدأ بطريقة دموية وتستمر لبعض الوقت وتنتهى بطريقة دموية أيضا.. أما الثورات الشعبية التى تفرض إرادة الشعوب على الحكام فغير موجودة بشكل مطلق.. طبعا جزء من أسباب هذه الظاهرة الفريدة فى تاريخ الشعوب المشرقية أن فقهاء السلاطين فى كل العصور جعلوا الخروج على الحاكم خروجا على الدين.. وتزخر كتب القدماء بصنوف من الاجتهادات والشروح التى تجرم الخروج عن الحاكم (حتى لو كان فاجرا ظالما ) الأمر الذى منع تكوين قاعدة شعبية تستطيع أن تتحد على رأى واحد لتغيير الحاكم أو على الأقل فرض مطالب شعبية جماعية عليه.
أما الظاهرة السياسية الثانية التى كانت نقطة اختلاف بين بلاد المشارق والمغارب فهى طريقة تعامل الدول مع بعضها.. ففى المشرق والمغرب كانت الحروب تنشأ بين الدول والممالك فهذا أمر طبيعى بل يكاد يكون غريزة إنسانية.. ولكن الحروب بين الدول فى بلادنا المشرقية كانت تهدف لأن تستولى الدولة على الدولة والمملكة على المملكة.. كانت حروب استحواذ.. وإذا تملك المنتصر رقبة المهزوم قتله على طريقة الشطرنج (الذى هو اختراع شرقى).. كش ملك.. مات الشاه..
ولكننا نلاحظ فى أوربا بعد عصر شارلمان أنه أصبح هناك عرف أو بروتوكول ينظم الحروب.. لعبت الكنيسة دورا فى ضبط صراعات الملوك عندما كان للكنيسة دور سياسى وعسكرى.. وعندما انهار هذا الدور الكنسى فيما بعد التزم الأوربيون أنفسهم ببروتوكول الحروب ونجحوا فى خلق توازن قوى يمنع حروب الاستحواذ على الطريقة الشرقية.. وما تاريخ العصور الأوربية الحديثة إلا تاريخ حروب وصراعات عسكرية كبرى بين القوى الأوربية الرئيسية.. فرنسا.. إنجلترا ..أسبانيا.. النمسا.. هولندا.. وغيرها.. وفى كل هذه الصراعات العسكرية لم يكن الهدف من الحرب أن يحتل المنتصر أرض المهزوم ويقتل ملكه.. وإنما كان الصراع على النفوذ.. على الامتيازات.. على المستعمرات الخارجية.. فكانت الحرب غالبا ما تنتهى بحصول المنتصر على مكاسب اقتصادية أو سياسية أو أراض من المستعمرات أو حتى أقاليم حدودية مثل الألزاس واللورين اللتين كانتا جائزة دورية لمن ينتصر فى الحروب بين فرنسا وألمانيا على مدار بضعة قرون، ولكن هذه الحروب لم تنته أبدا بإقصاء الآخر وإلغائه ومسحه من على الخريطة وابتلاعه فى جوف المنتصر.. الأوربيون نجحوا فى إرساء هذا البروتوكول فيما بينهم وقاموا على حراسته، ولذلك عندما خرق حاكم مثل نابليون هذا البروتوكول تكتلت عليه أوربا حتى أسقطته.. فقد كانت حروبه تحمل نزعة الاحتلال لممالك وبلدان أوربية وهو خط أحمر طبقا للعرف السياسى الأوربى.. وبفضل هذا العرف أو البروتوكول الأوربى حافظت دوقيات ودول مجهرية على وجودها حتى الآن مثل سان مارينو ولوكسمبورج وليخنشتين.. رغم تجاورها مع عمالقة يستطيعون التهامها فى غمضة عين.. وحافظت دول مثل سويسرا على حيادها ووجدت الجميع يحترم هذا الحياد.. والأهم من ذلك أن الدول القومية نجحت فى الظهور.. وأصبحت حضارات الشعوب وإنجازاتها تراكمية تمتد لأجيال طويلة ولا تنقطع بعد جيلين أو ثلاثة، لأن الدولة نفسها أصبحت غير موجودة بعد أن انهزمت فى معركة والتهمها المنتصر وبدأ عصرا جديدا ودولة جديدة تحمل اسمه وهويته.
وللحديث بقية