أيقظنى رنين الهاتف صبيحة يوم السبت الموافق 17/10/2009 قرابة الساعة السادسة صباحاً، فأدركت أن مصيبة قد وقعت. رنين الهاتف لا ينقطع مع تجاهلى له لفترة ليست بالقصيرة، يغلب علىّ النوم تارة ولكن بعد مضى هذه الغلبة أجدنى لا أقوى على الرد من شدة الإرهاق والتعب.. فى الطرف الآخر شخص إصراره على التحدث معى أكبر من تصميمى على عدم الرد، يعاود الاتصال بدون توقف ويعاود ويعاود، تستيقظ زوجتى فتجيب لتحمل لى الهاتف، قائلة إنه زميلك وصديقك، استبقه بادئاً الحديث مفتعلاً مبدأ (خذوهم بالصوت) فانهره بالقول إنى فى غاية التعب ولم تكن هذه المكالمة ضرورية فى هذه الساعة المبكرة فى يوم العطلة الأسبوعية، يبادرنى هو القول إن أغلق فمك بعض الشىء وكف عن العويل فلست محتملا صراخك هذا. وقتها لمحت فى صوت المتحدث أنه صوت إنسان مكلوم وأنه ليس فى حالة تركيز بل وأنه فى شتات، فتركت له مساحة الكلام والتزمت أنا الصمت لأجد صوته مخنوقاً بالبكاء وهو يقول لى لقد سمعت نكتة سخيفة من مصر على أحد التليفزيونات الآن وأرجو أن يكون لديك تكذيب لهذه النكتة. ظننت لحظتها أن الكون يضيق ويتسع بالرجل، فهو من كبار فقهاء القانون الدولى فى العالم، يحاضر فى العشرات من جامعات العالم ولكنه فى الأصل بروفسور فى جامعة السوربون بفرنسا، يعشق مصر ربما أكثر بكثير من الكثير من أبنائها الذين باعوا غازها وبددوا ثرواتها بل وفرطوا حتى فى كرامتها. أسأل الرجل عن النكتة السخيفة التى يريد التحقق من صحتها، فيقول أنه سمع نبأ وفاة صلاح عامر على أحد محطات التلفزة ويود أن أكذب له هذه النكتة، الرجل فرنسى غير مسلم وأنا لا أعرف ما أقول فى هذه المواقف، إلا ما أحفظه من كتاب الله ومن أحاديث الموت. صمت وكان على رأسى الطير بعض الوقت وهو صامت أيضاً وكلانا يمسك الهاتف بيده، شق الصمت وهدوء المكان سؤال زوجتى عن ما يحدث؟ ومن هنا تبدأ وقائع أخرى.
أجبت زوجتى أن المتصل يبلغنى بوفاة أستاذ وزميل وصديق وأخ أكبر وقيمة علمية كبيرة فى عالم القانون الدولى وهو الدكتور صلاح عامر فى مصر منذ ساعات قلائل، كان الرجل يستمع الحديث الدائر بينى وبين زوجتى ويلقنى الكلام الذى تسرب منى وكأنى قد هويت فى واد سحيق!
بعدما أنهيت المكالمة مع المتصل ذهبت للوضوء والصلاة ركعتين ثم جلست أقرأ فى كتاب الله الكريم على روح هذا الرجل الطاهرة التى عاشت مطمأنة وغادرت بنفس درجة أدبه وتواضعه الكبيرين فى الدنيا وأخذ الماضى يصفعنى بسكاكين من صور الأحداث الغابرة، فقفزت أمام عينى أول مرة التقيت فيها الدكتور صلاح عامر فى مقر الجمعية المصرية للقانون الدولى حينما كنت طالباً بكلية الحقوق ثم توالت الصور يوم أن قررت أن أغادر مصر لإكمال دراستى فى فرنسا وكان قراراً يحتوى على كثير من المخاطر كونى أتممت فى مصر السنة الثالثة وقررت بعدها إكمال دراستى فى فرنسا فلم أجد من استدفئ بكلامه سوى الدكتور صلاح عامر فتوجهت لمكتبة بشارع الدقى وجلست معه قرابة الساعتين متذكراً أدب الرجل الذى لم أشهد مثيلاً له فى حياتى وتواضعه الذى يفوق أى وصف أو تصوير وأنه لا ينادى أحد باسمه مجرد من لقب أستاذ حتى من يعمل على خدمته من سائق أو ساعٍ، حتى وصل بى قطار التذكر ليوم قرارى تسجيل درجة الدكتوراه فى جامعة السوربون والحيرة التى وقعت فيها وقتئذ لاختيار موضوع رسالة الدكتوراه فسارعت يومها للاتصال بالدكتور صلاح عامر طارحاً عليه عدة مواضيع تصلح أن تكون رسائل علمية للدكتوراه، ولكنه يومها وجهنى لاختيار موضوع لم أطرحه عليه وكان وقتها شديد الحداثة وبفضل إرشاده لى أصبحت أول من ألف فى مبدأ التكامل بين النظم القضائية الجنائية الوطنية والنظام القضائى الدولى مع الكندى فريدريك ميجريه، أجهشت لحظتها بالبكاء من فرط الألم وشعرت بلوعة وحسرة لم أشعرهما فى حياتى كلها على فقدان الأب والأخ والزميل والأستاذ والمعلم، أخذت الهاتف لأخبر البعض بالخبر فكان الجميع يسألنى عن آخر مرة تحدثت معه فيها، لذا قررت أن أنشر ما حدث بينى وبين الدكتور صلاح عامر فى آخر مكالمة تليفونية وكانت قبل وفاته بحوالى ثلاثة أسابيع.
كنت أتصل به بمعدل مرة أسبوعياً طوال السنوات العشرة السابقة، لكن فى الأشهر القليلة السابقة على وفاته كان المرض قد تمكن منه فلم يكن يقوى فى بعض المرات على الحديث لفترات طويلة وفى البعض الآخر كان لا يقوى على مجرد الرد، على الرغم من ذلك كنت لا أمل من تكرار بعض الأسئلة عليه مثلما كنت ألقى على الدكتور صوفى أبو طالب نفس السؤال حتى توقفت عن تكراره فى العام 2005 حينما نزلت حركة كفاية للشارع وواجهت ما واجهت وفهمت أن سؤالى المتكرر للدكتور صوفى أبو طالب عن عدم دفاعه عن مكانه كرئيس للجمهورية كان سؤالاً أبله بعدما عرفت ما حدث للراحل العظيم عبد الوهاب المسيرى وزوجته الدكتورة هدى من ركل بالأقدام ومن قبل ذلك رفض إرساله للعلاج على نفقة الدولة بالخارج، لقوله كلمة حق فى وجه عصبة جائرة وكأن العلاج على نفقة الدولة بالخارج لا ينعم به (المطبلاتية) أجمعين وذويهم بل والراقصات وبعض الساقطات، فيترك شيخ المثقفين فى القرن العشرين يخر صريعاً ملفوفاً فى ألمه!!
كانت استفساراتى للراحل صلاح عامر من نفس القبيل، فالرجل من الفرسان الذين امتطوا ظهور الخيل فدقوا الحصون التى تمنعت على العرب منذ فجر التاريخ ليعود لمصر برأس العدو على سن رمحه ولكن العجب وما كنت لا أفهمه هو أنه كان يصر على أن لا يمتطى صهوة نفس الجواد بين بنى وطنه بعدما حارب وحقق النصر المبين من على تلك الصهوة!
لسنوات وسنوات ذاق العرب أصناف الهوان فى المحافل الدولية وفوداً ودبلوماسيين وكان إعلامنا آن ذاك يفهمنا أنهم هناك ينكلون بأعدائهم بعدما ظفروا بهم فى حين أنهم كانوا يتجرعون كؤوس الذل والمهانة والهوان.
حتى أتت العولمة لتفتح السماوات أمام وسائل الإعلام من كل حدب ونسل لتدفق الأخبار فتسقط ورقة التوت عن عورات من كانوا يدعون البطولات الوهمية.
فى تلك الأثناء كان صلاح عامر يتحرق شوقاً لنصر لأمته وشعبه فاستفتح الرجل ففتح الله على يديه حصن محكمة العدل الدولية بحكم طابا الأشهر فى تاريخ التحكيم الدولى وعلى الرغم من ذلك فإن الرجل عاد من لاهاى ليعمل فى صمت بعيداً عن وسائل الإعلام وعن الكراسى والمناصب والسيارات الفارهة وهو من هو ويكفى للتعريف به القول إنه صلاح عامر.
فى مكالمتى الأخيرة معه كان المرحوم يلقى إلىّ بالنصائح المتتالية وكأنه يودع ابناًَ وتلميذاً يعرف أن روح هذا التلميذ معلقة بأستاذه أينما حل هذا الأستاذ ولما لا؟ وهذا التلميذ يدرك تمام الإدراك أنه صنيعة أستاذه وكله عرفان وتقدير لأستاذه العظيم.
دامت المحادثة حوالى سبع دقائق خرجت منها بثلاث نصائح كثيراً ما كان الرجل يكررها لى منذ أن طرقت بابه لأول مرة لأسترشد برأيه كأستاذ كبير.
النصيحة الأولى تنصب على التعلم وإتقان ما يقوم الإنسان بعمله، والثانية هى التواضع ومعاملة الناس بالرأفة والرحمة وتقديم يد العون لكل من يحتاج إليها، أما عن النصيحة الثالثة فهى مخافة الله والتقرب إليه فهو غنى والعبد فقير يحتاج الله مهما هذا العبد امتلك.
يوم وفاته جلست لساعات وساعات أتساءل مع نفسى ومن التساؤل فهمت أموراً كثيرة منها:
- أن أمثال صلاح عامر هم بناة حضارات وأن أمثال ترزية القوانين من الذين ارتضوا الكراسى هم غثاء كغثاء السيل، لن يذكرهم أحد بعد الممات ولا حتى فى الحياة يوم يغادرون كراسيهم، فستضيعهم ذاكرة الناس كما هم أضاعوا أوطانهم، فى حين أن الأعلياء أمثال فقيدنا العظيم هم الذين سيخفرهم التاريخ فى ذاكرته كما حفر اسم حمو رابى من قبل والسنهورى من بعد.
- أن الذين يشعرون بالامتلاء الإنسانى والوجدانى فضلاً عن المعرفة أمثال المغفور له الدكتور صلاح عامر تكون خطواتهم متباطئة بثقل إلى كل ما هو زخرف من متاع الدنيا و يكون العمل أولى أولوياتهم لا المال ولا السلطان ولا الشهرة.
- إن ما يحدث الآن فى مصر من حالة هرج ومرج واضطراب، فنجد الكون قام ولم يقعد للتحقق من أن أحد الفنانين يمارس الشذوذ من عدمه، بل ويتحدث بعض الرويبضة من الناس بالقول إن هذا يمس بسمعة مصر (وكأن مصر لم يصنع لها التاريخ عبر سبعة آلاف عام ما صنعه هذا الممثل) كى يكون فى شذوذه مساساً بسمعة مصر، ومن ناحية أخرى الشرشحة على الفضائيات التى فتحت أبوابها وكأنها أسواق الحمير فى العصور الغابرة.
إن كل ما يحدث هذا يقوض بل ويحاصر القادرين على بناء الأوطان أمثال صلاح عامر وأحمد زويل ومجدى يعقوب وغيرهم، ويجعلهم إما خارج أوطانهم وإما فى غربة بين دقات أوطانهم.
إن حالة الظلم والقهر الاجتماعى التى يحياها المصرى بعدما قام عبد الناصر ورفاقه بإلغاء الحريات وشوهوا عن قصد إجرامى عبر سابق الإصرار والترصد التاريخ فافهموا أجيالا زورا وبهتانا أن سالف عصرهم هى عصور ظلم، أن حالة القهر تلك منبعها أن نظامنا الاجتماعى أصبح يميل عن من يستحقون التوقف و التكريم ويميل فى ذات الوقت إلى المطبلين والمرتزقين!
لم تكن هذه السطور رثاءً لصلاح عامر، فالرجل أكبر من أن يرثيه أحد وأعظم من أن يعدد مناقبه أحد، هذه السطور صرخات على شعب يستفيق من ما هوى سائر إليه، انتخابات تشريعية فى غضون أسابيع عنها النهى الناس، وانتخابات رئاسية مصحوبة بمسلسل توريث تعقبها فى غضون شهور، وهذا ما سيكون محور المقال القادم أن أمهل القدر العمر إليه.
رئيس مركز السوربون للقانون الدولى والعلاقات الدولية
باريس – فرنسا
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة