كان يمتلك كل شىء، الماء والهواء وخيوط شمس تنير الوادى المجاور لمنزله، أصوات عصافير تزقزق فجرا، لها أعشاش بنتها على الأشجار المقيمة على سفح جبل شامخ مطل على الوادى، كان له صبارة زرعها ليأكل من ثمارها اللذيذة وليستمد منها قوة خارقة تجعل منه رجلا عابرا للحدود محققا كل ما يصبو إليه، كان له فأس يقطع بها الحطب الذى يعتاش من بيعه لأهل المدينة المجاورة.
كان يمتك ثلاث دجاجات يطل عليها كل صباح للبحث عن البيض لوجبة الإفطار، كان يشعر بخيبة أمل إذا ما أطل من باب قن الدجاجات ولم يجد أية بيضة تسد جوعه وجوع أطفاله، له حديقة منزلية يزرع بها نباتات يأكل من ثمارها، نعناع وفجل وخس وخضار يستهلكها بحذر شديد، كان لا يهوى البذخ.
ابنه كان يدرس فى الكتاب الذى تم إنشاؤه منذ وقت ليس بطويل فى جامع القرية، كان يحلم بأن يرسله إلى مدرسة المدينة ليتعلم ويحصل على وظيفة تسد رمق عائلة ما شبعت الخبز يوما، كبر الشاب وصار رجلا، تعلم كما أراد له والده، صار له أحلام وآمال، قرأ الكثير وفكر أكثر، كان له هم آخر غير هم والده، كان له هموم فكرية تشغل دماغه الصغير الكبير.
وجاء المحتل بليل دامس، حرم من ضوء القمر، ليجرده من كل ما كان يملك، فقد الأب والأم والأرض والماء والهواء، إلا شيئا تعلمه وفكر فيه، وجد نفسه فجأة فى مخيم للاجئين، كان وحيدا يمتلك مفتاحا حمله بالقرب من قلب كسره الألم، كان همه الوحيد أن يبقيه فى مكان آمن، لم يتركه ليلا أو نهارا، وكأنه صك يضمن له العودة إلى منزل لربما تحول ركاما.
هذا الغريب تزوج من امرأة غريبة لينجب الكثير من الأطفال الغرباء، كان لهم حلم واحد توحدوا لأجله، رسمه لهم الأب على ورق البردى، كان يرسم كل يوم خريطة وطن تلاشى من على خارطة العالم ليحل محله شىء لم يكن موجودا يوما، تساءل الأطفال الغرباء: كيف يمكن لرجال ونساء جاءوا من كل بقاع الأرض أن يقرروا محو شعب بكامله ووطن ليقوم مكانه آخر بهذه البساطة؟ وكيف سمح العالم بحصول هذا؟ أين البيت الذى رأى النور فيه والدهم طفلا وظل يحمل مفتاحه سنين مرت؟
أسئلة فشل الكبار بالإجابة عليها، فكيف سيقتنع طفل بإجابة تقول إن للقوة وزناً فى هذا العالم، وأنها قد تحول الحق إلى باطل.
أصبح للأطفال الرجال أطفالا وصاروا يشكلون شعبا مشتتا وما زالت الأحلام كما هى، خريطة ترسم كل يوم، وقصة تروى فى اليوم ألف مرة و مرة، لم يكن للملل مكان فى قلوبهم، كان حلم العودة شىء يحفزهم على المضى قدما، كان كالوقود الذى ينير مصباح الجاز فى ليل المخيم الذى يفتقد للكثير من الخدمات التى تسهل العيش.
وسيظل كل طفل من أطفال الشتات يرسم وطنا لم تره عيناه يوما، لم يعرف رائحة ترابه، ولون أوراق الشجر، وزقزقة العصافير ورقصاتها فى سمائه، وصوت المياه التى تخدق فى الوادى القريب من بيت كان لجدهم يوما، ولكنهم سيحتفظون فى خيالهم بقصص سردها لهم رجل عاش هناك يوما ومات على أمل العودة، وبموته المفاجئ حملهم هم حلم واقعى خيالى قد يتحقق يوما.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة