ياسر أيوب يكتب:

مع هيكل أو ضد هيكل.. ولكن بالتأكيد ضد كل هذا العجز والفشل والإخفاق

الخميس، 22 يناير 2009 11:29 م
مع هيكل أو ضد هيكل.. ولكن بالتأكيد ضد كل هذا العجز والفشل والإخفاق محمد حسنين هيكل - تصوير سامى وهيب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى كل حالات الكتابة ودواعيها, كنت دائما مسلحا بوصية ونصيحة.. الوصية كانت للزعيم البريطانى الكبير ونستون تشرشل حين قال لأحد تلاميذه: حاول أن تكون نسرا قدر ما تستطيع.. إياك أن تكون ببغاء مهما تحملت.. ورغم إحساسى المزعج بالعجز عن التحليق مع النسور فى سماواتها، فإن العزاء الوحيد الذى وجدته كان رفضى البقاء وسط الببغاوات فى أقفاصها.. أما النصيحة فكانت للكاتب الكبير والقدير محمد حسنين هيكل، حين قال إنه على كل صحفى ألا ينسى أبدا أنه صحفى، ولا يتحول يوما إلى قاض يصدر الأحكام، ثم إلى جلاد ينفذها، ولا أزال ألتزم بالنصيحة قدر الإمكان فأكتب تساؤلات وليست اتهامات وأطرح قضايا ولا أصدر أحكاما.. وبهذه النصيحة وقبلها الوصية أكتب الآن عن هيكل نفسه، عن حواره الأخير مع قناة الجزيرة والذى أثار الكثير من الجدل والصخب، وعن الببغاوات التى انطلقت من أقفاصها تهاجم هيكل وتلعنه لمجرد أنه تكلم، وعن كل هذا الخلط الفادح والفاضح فى الأوراق والصفات والأدوار والمعانى.

وأتوقف فى البداية عند هيكل وما قاله على شاشة الجزيرة عن غزة وما يجرى فيها، وأقصد هذا الترتيب تماما.. أى التوقف عند هيكل ثم عند ما قاله هيكل.. ولا أريد استطرادا لا مبرر له، أو لزوما بشأن مكانة هيكل الرائعة وعطائه الفكرى والصحفى الهائل والاستثنائى، عبر أعوام طويلة قضاها هيكل مفكرا وكاتبا، حتى بلغ أقصى ما ينشده طموح كل من يفكر أو يكتب.. ولا أظن أن هيكل نفسه كان يريد هيكل الثانى الذى حاول اختراعه الحواريون وفرسان المعبد الهيكلى، حيث هيكل فى المعبد هو الإله الذى لا يخطئ أو ينطق عن ضعف أو هوى أو هو الأسطورة التى لا يمكن المساس بها أو الاقتراب منها إلا بمزيد من الحمد والتسبيح.. لا أظن أيضا أن هيكل كان يريد هيكل الثالث، الذى اخترعته جهات رسمية أرادت أن يتحول هيكل إلى شيطان من ورق وصور وحكايات يصبح رجمها فريضة على كل من احتاج غفران السلطة أو اشتهى الاقتراب منها، والاغتسال فى بحر نعيمها وتحت أضوائها الساطعة، وبالتالى فليس هناك سوى هيكل واحد فقط، هو الأستاذ الذى يفكر ويكتب، والرجل الذى لا يملك إلا كلمته، يتركها لنا دون أن يكون صاحب قوة أو سلطة ترغمنا على التعامل مع كلماته بأكبر من حجمها أو شكلها أو معانيها، وبالتالى فأنا لا أفهم سر كل هذا الغضب، الذى لاقاه حديث هيكل الأخير عن غزة على شاشة الجزيرة.. غضب مارسه كل رؤساء تحرير الصحف القومية، وياليتهم غضبوا من الرجل لأنه أخطأ، وإنما رجموه ولعنوه وحاولوا بأحذيتهم الثقيلة أن يطأوا صورة الرجل واسمه وتاريخه ومكانته، فقط لأنه تحدث لقناة الجزيرة.. لم تعد المشكلة هى ماذا قال هيكل.. وإنما باتت كل المشكلة هى لمن تحدث هيكل..

وكان ذلك تكريسا جديدا، وضروريا أيضا، لواحدة من أكبر مساوئ وعيوب وخطايا الإعلام الرسمى فى مصر.. إعلام يهتم بالشكل أكثر من اهتمامه بالمضمون، إعلام الألوان الفاقعة والصرخات المتكررة الزاعقة والحملات الطويلة التى لم ولن تقنع أى أحد على الإطلاق.. وقد فضح الزميل أحمد المسلمانى زيف كل هؤلاء حين كتب فى المصرى اليوم ينتقد هيكل فى نفس حديثه إلى قناة الجزيرة، دون أى مساس بشخصه أو أى انتقاص من قدره وقيمته..

وعلى الرغم من اختلافى فى كثير مما كتبه المسلمانى، وأختلف فيه مع هيكل.. إلا أننى أحترم هذا المنهج وهذا التناول الراقى فى الحوار والاختلاف بعيدا عن السباب واتهامات التخوين والعمالة، والظن بأن كلمة عابرة وبضع نقاط من الحبر، يمكنها أن تهيل كل هذا التراب والوحل على شرف ومسيرة ومشوار مفكر وكاتب عظيم مثل محمد حسنين هيكل.
لابد أن يرجمه كل من يحتاج للغفران والاقتراب أكثر من السلطة وأضوائها.

وقبل الحديث عما أختلف فيه مع أحمد المسلمانى بشأن اختلافه مع هيكل.. أود التوقف أولا عند غضبة الإعلام الرسمى المصرى على هيكل، بعد حديثه فى قناة الجزيرة.. وخلاصة الأمر أن هذا الإعلام لم يعد مشغولا بالبديل فى كل المجالات وعلى كل المستويات، فمنذ سنين طويلة جدا ومصر الرسمية تشكو من قناة الجزيرة، وتضيق بها وتنزعج منها، وبدلا من أن يصبح الحل الطبيعى أو المنطقى هو أن تمتلك مصر قناة أخرى منافسة للجزيرة، وقادرة على مناطحتها بل وأن يصبح صوتها مصريا وعربيا وعالميا أعلى من صوت الجزيرة، اختار الإعلام الرسمى المصرى أسهل الحلول، وهو المطالبة بإغلاق الجزيرة وقطع لسانها.. وكأن هذا هو الحل.. فإن لم تستطع مصر الرسمية إغلاق الجزيرة، فلا أقل من تخوينها واتهامها الدائم والمتكرر بالعمالة للولايات المتحدة ولإسرائيل..

مع أن مصر بقليل من الجهد، وببعض المال المنفق أصلا فى بحر الإعلام وجزره المتناثرة، وبكثير من الإبداع والخيال كان بإمكانها أن تمتلك أكثر من جزيرة.. إذ أنه لا يمكن حتى مقارنة العمق والرصيد الإعلامى بين مصر وقطر، حتى وإن كانت الجزيرة مدججة بخبرات وعقول أمريكية وإنجليزية.. وهناك فى مصر شباب ووجوه وأصحاب إمكانات، يمكنهم منافسة أية شاشة عربية أو محلية، فقط لو اتيحت لهم الفرصة، ومنحت لهم الحرية التى بدونها يفقد الإبداع كل أسلحته ومبررات وجوده واكتماله.. وليست قناة الجزيرة فقط، هى التى يتجسد عندها فشل الإعلام الرسمى فى مصر، بل هناك الإخوان المسلمون أيضا.. وفى استطراد قد يبدو خارج السياق، وإن كنت لا أحسبه كذلك، توقفت إحدى نوافذ هذا الإعلام الرسمى عند زيارة قام بها مهدى عاكف، المرشد العام، لمستشفى معهد ناصر، وبدأت الصحيفة التى ضاقت بهذه الزيارة تهاجم المرشد، والمستشفى الذى سمح بدخوله، ووزارة الصحة التى يتبعها هذا المستشفى.. وكان هذا الهجوم هو تجسيد آخر وإضافى لإعلام عاجز عن التعامل مع ملف الإخوان، وبالتأكيد لا يعلم المسئول عن تلك الصحيفة، أنه منح لزيارة المرشد العام تأثيرا أشد وضوحا مما كان ينشده مهدى عاكف نفسه، وإن كنت أتخيل أن يقوم المرشد العام بهذه الزيارة مثله مثل أى مواطن مصرى آخر، دون أى حسابات سياسية أو تحقيق مصالح شخصية، باستثناء حسابات أى إنسان الخاصة بيوم الحساب والجنة والنار.

ومنذ سنين أيضا ومصر الرسمية تضيق بهيكل.. وبدلا من أن يتقدم أحد من الصحفيين الرسميين ويطرح نفسه بديلا لهيكل، يصبح الحل السهل هو أن يلتقى ويتجمع كل الصحفيين الرسميين لشتيمة هيكل، ورجمه وإبعاده أو قتله لو كان ذلك ممكنا، وفى الأزمة الأخيرة الخاصة بغزة والعدوان الإسرائيلى عليها، تشابه كل الصحفيين الرسميين فى كل كتاباتهم وتعليقاتهم.. كتابات وتعليقات لم تتخط أبدا حواجز مكاتبهم المغلقة، وبدلا من أن يكونوا إضافة للسلطة السياسية فى مصر، كانوا كالعادة عبئا عليها.. تعلقوا بأذيالها ينتظرون منها الخبر والتعليق وتحديد الموقف واتجاه الريح والكلام وعلى من سيطلقون نيران الغضب.. لم أر واحدا منهم يفكر فى لقاء ساركوزى منفردا، أو يجرى حوارا مع تونى بلير، أو يحاول لقاء باراك أوباما.. لم أر أحدا منهم فى أروقة الأمم المتحدة وقاعاتها.. لم أشهد واحدا منهم يناقش تعليقات الحرب وشهاداتها كما هى منشورة فى النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست أو التايم أو النيوزويك.. باختصار لم أر صحفيا كبيرا منهم، وقد قرر أن يمارس مهنته حتى آخرها ويستثمر كل الإمكانات والصلاحيات، التى يتيحها له منصبه فيقدم رأيا أو نصيحة أو ينقل تجربة أو شهادة من هذا العالم للسلطة السياسية فى مصر، وهو أول دروس المهنة التى تعلمناها كلنا من هيكل، يوم كان يكتب ويفكر محسوبا على نظام سياسى سابق.. ومن العبث تصور أن أى نظام، أو أى رئيس فى العالم كله يصبح غاية ما ينشده من إعلامه هو أن يمشى وراءه يعيد ترديد كلماته وأفكاره، بينما من الممكن، أو من الضرورى أن يبادر هذا الإعلام بالتجربة والمغامرة والفكرة، وأن تأتى لحظات كثيرة أو قليلة يكون فيها الرئيس، هو الذى يسير خلف إعلامه وليس العكس.

أما زميلى وصديقى العزيز أحمد المسلمانى، فقد اختلف مع هيكل، لأن هيكل فى حديثه لقناة الجزيرة قال إنه آثر الانتظار حتى تتضح الصورة أكثر، وفوجئت بالمسلمانى ينتقد هيكل لأنه آثر الانتظار.. فوجئت أكثر بالمسلمانى يقول عن هيكل.. لقد أصبح الأستاذ كالآخرين، فصمت حين صمت الجميع، وتحدث حين تحدث الجميع.. ومبدئيا أود أن أؤكد للمسلمانى أن ما قاله ليس صحيحا، فلا هيكل صمت حين صمت الجميع، ولا تحدث حين تحدث الجميع، فالجميع الذى يقصدهم المسلمانى أبدا لم يصمتوا، وإنما هم يتحدثون وبصوت زاعق منذ أول يوم..

ولا أعرف لماذا رفض المسلمانى أن يمارس هيكل حقه الطبيعى كمفكر، وككاتب، وكإنسان أيضا فى أن يسكت حين تبدو الصورة أمامه غير واضحة أو مكتملة، وأظنها حالة يمكن أن يصادفها كل من يكتب أو يفكر، حين تأتيه لحظة دهشة وارتباك واستياء من كل هذا الذى يجرى أمام الجميع.. وأنا شخصيا لو كنت مكان هيكل، وأعرف أن الذى سأقوله قد يغير مسارات قناعات وأفكار وربما حكومات أيضا، وستتناقله صحافات وشاشات لا أول لها ولا آخر، فمن حقى أن أتمهل كثيرا أو قليلا قبل أن أطرح كلمتى على من ينتظرها ليشتم أو يمدح، يؤيد أو يعارض، والدليل هو أنه بالرغم من كثير جدا قيل وكتب عن غزة لم يتوقف المسلمانى عند كل هذا الذى قيل وكتب باستثناء هيكل وحده.. واختلف المسلمانى أيضا مع هيكل حين قال هيكل إن مصر موجودة فى الصراع العربى الإسرائيلى للدفاع عن مصر فى حد ذاتها حتى بدون انتماء عربى..

وقال المسلمانى إن ما قاله هيكل يخالف حقائق التاريخ.. وللتدليل على صحة ما يقوله، ضرب المسلمانى أمثلة بثورة 1919 التى تنبهت لخطورة الحركة الصهيونية، والنحاس باشا والذى كانت لديه الرغبة فى خوض القتال ضد الصهيونية.. ولم أدر هل كان المسلمانى يستحضر دروس التاريخ ووقائعه للتدليل على صحة ما يقوله هو أم صحة ما قاله هيكل.. فأمثلة المسلمانى وشواهده دليل على أن مصر كانت بالفعل فى صراع مع الصهيونية ومع إسرائيل للدفاع عن مصر فى حد ذاتها، لأنه لا فى سنة 1919 ولا فى سنة 1936 كانت مصر قد بدأت تعيش التجربة العربية القومية، وإنما كانت مملكة فى حد ذاتها تخوض الحروب والصراعات أو تنتوى ذلك دفاعا عن مصالحها العليا وأمنها القومى وليس أمن الآخرين.

واختتم المسلمانى تعليقاته مؤكدا بأنه إذا كانت هناك صحف مصرية قد وصفت حديث هيكل للجزيرة بأنه أخطر حديث للأستاذ، فإن المسلمانى نفسه يصف هذا الحديث بأنه أضعف حديث للأستاذ.. أما أنا فلا أراه أعظم أو أضعف، وإنما أراه حديثا لهيكل يحتمل الخطأ والصواب.. شهادة من أستاذ كبير وقدير قالها قبل أن يمضى، لعلنا نفكر ونجتهد، ويقدم كل منا شهادته التى تعكس ضميره هو وما يريد أن يقوله لا الذى يريده الآخرون.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة