صباح السابع من أكتوبر عام 1973 كانت سعاد حسنى لا تزال تتألق فى أوسع الأفلام المصرية انتشاراً عبر معظم دور العرض، «خلّى بالك من زوزو»، وكان الإسرائيليون يستعدون للانقضاض على السوريين فى الجبهة الشمالية، وكان الجنود المصريون يثبِّتون أقدامهم على الضفة الشرقية لقناة السويس عندما حدث شىء عجيب: برقية سرية من السادات إلى الأمريكيين.
يلخص ويليام كوانت، عضو مجلس الأمن القومى الأمريكى الذى كان يرأسه آنئذ هنرى كيسينجر، ما جاء فى البرقية على لسان السادات بقوله: «هذه حرب أخوضها من أجل تسوية دبلوماسية لا من أجل انتصار عسكرى»، ويضيف: «أما كيسينجر فقد بُنيت فلسفته على الجمع بين القوة والدبلوماسية، وها هو تلميذ مُجِد كالسادات، يقول له: إن هذا هو ما أفعله، فالتفتْ إلىّ فهذه ليست حرباً لهزيمة إسرائيل، بل حرب لتمهيد الطريق للدبلوماسية».
أحد الدروس الأولى فى فن السياسة أن الحرب لا تُقصد لذاتها وإنما لتمهيد الطريق نحو حل سياسى، بغض النظر عن مدى عدالة ذلك الحل. يمكن لما كان يحدث فى تلك الساعات الرهيبة من تاريخ مصر والعرب مع تل أبيب وواشنطن أثناء أشرف حرب فى التاريخ العربى الحديث أن يلقى قليلاً من الضوء على ما يحدث الآن جراء العدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة. فرغم اختلاف الظروف تبقى مجموعة من العوامل ثابتة لم يطرأ عليها كثير من التغيير.
فأولاً: إسرائيل لا تزال غارقة فى عقدة الأمن النفسية رغم كل ما لديها من أسلحة ورغم التزام معلن صريح من الإدارات الأمريكية المتعاقبة بدعم تفوقها على جيرانها على جميع المستويات. وثانياً: لم يصل صانع القرار العربى بعد إلى مرحلة من النضوج التكتيكى والاستراتيجى فى قراءة الموقف تسمح له باستغلال ما لديه من أوراق بصورة تحقق له أكبر فائدة ممكنة فى إطار ما هو متاح. وثالثاً: لا تزال واشنطن قبلة إسرائيل وقبلة الحكام العرب فى آنٍ معاً رغم أنها لم تكن يوماً فى صفنا أمام الإسرائيليين ولا هى ادعت ذلك.
أن يتباطأ الأمريكيون اليوم فى محاولة الوصول إلى حل دبلوماسى سريع يحفظ على الأقل أرواح النساء والأطفال فى غزة هو أمر ليس جديداً ولا مستغرَباً، بل إن وأدهم لمحاولات الآخرين فى مهدها هو الأمر المتوقَّع كما نعلم من تاريخهم فى مثل هذه اللحظات.
فرغم أن رئيس الوزراء البريطانى أيام حرب أكتوبر، إدوارد هيث، تحرك لاهثاً فى ثالث أيام الحرب فبعث إلى السادات برسالة يستجدى منه فيها وقف إطلاق النار مع الاحتفاظ فى الوقت نفسه بما حققه الجيش المصرى الباسل ليكون الواقع الجديد الذى حفره الإنسان العربى بأظافره وأسنانه أساساً لأى محاولة للوصول إلى حل سياسى، رغم ذلك فإن اليهودى هنرى كيسينجر كان يسير فى اتجاه مختلف حدده لنفسه بناء على البرقية العجيبة التى وصلته من السادات.
بعد ساعات من وصول تلك البرقية، أى فى مساء السابع من أكتوبر بتوقيت واشنطن، لخص كيسينجر فى اجتماع رسمى سرى استراتيجية بلاده على النحو التالى: «مصر لا تريد مواجهة معنا فى الأمم المتحدة، والسوفيت لا يريدون مواجهة معنا على الإطلاق. سيركز موقفنا العام على استعادة وقف إطلاق النار على حدود ما قبل بدء الحرب. سيصرخ العرب بأنهم يُحرمون من حقوقهم الفطرية، ولكن بحلول الخميس، الحادى عشر من أكتوبر، سيركعون أمامنا متوسلين من أجل وقف إطلاق النار».
كان الخط الساخن مفتوحاً بين تل أبيب وواشنطن وكانت هذه الأخيرة ترسم للأولى طريق نجاتها عسكرياً وسياسياً، وكان السؤال الأهم وقتها: «كم من المعدات تحتاجون؟». الشىء نفسه يحدث اليوم فى مذبحة غزة مع اختلاف طفيف فى السؤال: «كم من الوقت تحتاجون؟».
باستجابة أمريكية فورية لقائمة الاحتياجات العسكرية الإسرائيلية صباح التاسع من أكتوبر بدأ ميزان القوى يتأثر على أرض الواقع فى سيناء، وبتبرير أمريكى يلقى اللوم كله على حماس كان فى أيدى الإسرائيليين «شيك على بياض» فى غزة. فى النموذج الأول لم تستوعب القيادة السياسية العربية حجم الإنجاز الضخم للجندى الذى التهم رمال سيناء وفر أمامه جنود إسرائيل كما يفر الجرذان، ومن ثم لم تستطع قراءة الموقف الأمريكى المتلكئ على حقيقته. وفى النموذج الثانى عجزت القيادات السياسية العربية (كلٌّ لأسبابه) عن الارتفاع إلى مستوى الإدراك الفطرى لشعوبها، ومن ثم فإن كل دقة من دقات الساعة التى كانت تعلن ضحية جديدة فى غزة كانت أيضاً تحفر فجوة جديدة بين الحاكم والمحكوم.
دقة، دقة، دقة، ثم كان هنرى كيسينجر فى السابعة وثمانى دقائق من مساء التاسع من أكتوبر على الهاتف الآمن مع رئيسه، ريتشارد نيكسون، فى حوار جاء فيه:
نيكسون: «الإسرائيليون يتحركون الآن، أليس كذلك؟» كيسينجر: «حسناً، سيفعلون ذلك غداً. هم الآن فى موقف يسمح لهم». نيكسون: «إنهم سيقطّعون المصريين. يا لهؤلاء المصريين الفقراء الأغبياء يعبرون قناة السويس وتُنسف الجسور وراءهم. لابد أن السوريين يهرولون الآن فراراً».كيسينجر: «كلا، السوريون سيتحولون إلى ديك رومى بحلول الأربعاء، العاشر من أكتوبر».
هدف إسرائيل المعلن فى تلك الآونة تلخص فى صد الهجوم المصرى وإحراز هدف التعادل فى الشوط الثانى، بينما تلخص هدف أمريكا فى التأكد من حدوث ذلك عملياً وفى الوقت نفسه تحزيم المباراة بالتعادل تمهيداً للوقت الإضافى: المفاوضات. أما هدف إسرائيل المعلن اليوم فقد بدا بسيطاً: تدمير قدرة حماس على إطلاق الصواريخ البدائية. لكننا رأينا من اللحظات الأولى فريقاً هائجاً يحاول تسجيل دستة أهداف فى الدقائق العشر الأولى فى مرمى فريق من الدرجة الثالثة معتمداً على انحياز الحكام وعلى «تواطؤ» فرق أخرى وبعض الجماهير التى لا تستلطف هذا الفريق.
«كم من الوقت تحتاجون؟» بدأ السؤال يطرح نفسه بعدما بدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع وبدأت أصوات موظفى الأنشطة الإنسانية والمتطوعين الدوليين فى التصاعد. «كم من الوقت تحتاجون؟» بدأ السؤال يزداد إلحاحاً بعدما زادت صور الوجوه المشوهة والأشلاء المتناثرة للأطفال والنساء بينما لم يسجل الفريق المهاجم سوى هدف واحد من تسلل واضح فيما يوشك الوقت الأصلى للمباراة على الانتهاء.
«كم من الوقت تحتاجون؟» بدأ الصبر ينفد. دقة، دقة، دقة، ثم كانت المبادرة الفرانكومصرية. صار من حق سكان غزة أن يأكلوا ويشربوا لمدة ثلاث ساعات كل يوم قبل أن يكون من حق إسرائيل أن تستأنف اصطيادهم كى لا يموتوا وهم جوعى. «كم من الوقت تحتاجون؟» لكنّ جولدا مائير كانت قد استوعبت الدرس: «سأموت وفى خاصرتى شوكة مُرة اسمها غزة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة