يسرى فودة

الكبار فقط يعتذرون

الخميس، 01 يناير 2009 11:20 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«إلى هؤلاء فى هذه القاعة، وإلى أولئك الذين يشاهدون على التليفزيون، أقول: لقد خذلتكم حكومتكم، هؤلاء الذين عهدتم إليهم بحمايتكم خذلوكم،أنا نفسى خذلتكم، لقد حاولنا جادين، لكنّ هذا لا يهم الآن لأننا فشلنا، وبسبب هذا الفشل أسألكم الصفح عندما تتضح كل الحقائق وألتمس منكم المغفرة.. بهذا يا سيادة الرئيس يسعدنى أن أجيب عن أسئلتكم».

بهذه الكلمات الحكيمة المُحكَمة بدأ ريتشارد كلارك، رجل البيت الأبيض لمكافحة الإرهاب فى عهدى بل كلينتون وبوش الصغير شهادته عام 2004 أمام لجنة التحقيق فى أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى حضور أهالى الضحايا.

لم يكن كلارك إلهاً كى يسمح لنفسه بتحمل مسئولية حدث فى ضخامة حدث كهذا ولا هو زعم ذلك، ولم يكن كلارك جمال عبد الناصر كى يتطوع فيغير كلمات محمد حسنين هيكل فى خطاب التنحى من «أتحمل نصيبى من المسئولية» إلى «أتحمل المسئولية كاملة».

لم يُصدر تأشيرة دخول لأحد الخاطفين الذين كانت أسماؤهم على قائمة المراقبة، لم يخبئ أو يتجاهل عمداً ولا سهواً معلومات ووثائق حاسمة عن تطور خطط القاعدة، لم يذهب كما ذهب الرئيس إلى مزرعته فى إجازة طويلة بينما كان مدير مخابراته يلطم ويصرخ، ولم يهرول إلى المخبأ كما هرول الآخرون عندما وقعت الفأس فى الرأس.

بل إنه هو الذى اتخذ زمام المبادرة وحكم أمريكا حكم الأمر الواقع فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فى يوم أمريكا الأسود، ورغم ذلك دفعه واجبه الوطنى والأخلاقى إلى تقديم اعتذار شامل غير مشروط إلى الشعب الأمريكى، وإلى التماس الصفح من أسر الضحايا، كان ينبغى لهذا الاعتذار أن يأتى من رئيس البلاد، لكنه لم يأت لأن الكبار فقط هم القادرون على الاعتذار.

ورغم أنه ليس مسئولاً على المستوى الشخصى عن خطايا سلفه، فإن أمام الرئيس المنتخب، باراك أوباما، فرصةً ذهبية عندما يتسلم مفاتيح البيت الأبيض يوم 20 يناير القادم كى يرتفع إلى مستوى تطلعات الشعب الأمريكى وشعوب العالم كله، أمامه فرصة تاريخية كى يسمو إلى مستوى الاعتذار البنّاء الذى يعيد الثقة لشعبه فى حكومته ولشعوب العالم فى أن فى أمريكا خيراً على أية حال بعد كل ما حدث.

نعم، أمامه من التحديات ما يمكن أن يُضحك مساعديه من دعوة كهذه، أمامه اقتصاد يتهاوى وبطالة تتصاعد، أمامه أوروبا خجولة وخلفه روسيا متوثبة، أمامه الصين والهند والبرازيل تختبئ له فى حقول القصب وبين يديه العراق وأفغانستان وجوانتانامو على عينك يا تاجر، أمامه بن لادن وراء الأفق يعيد ترتيب أولوياته وحوله فى كل زاوية زوجته تعيد ترتيب ديكورات البيت الأبيض.

نعم، يبدو أن شعبان عبد الرحيم أكثر منا جميعاً حنكةً وواقعية حين يتساءل: «هيعمل إيه أوباما فى مصايب بوش وأبوه؟ ما سابوش مكان فى العالم إلا ما خرّبوه». مع هذا كله، ومن أجل هذا كله، لا بد من أن يعتذر الرئيس الأمريكى الجديد، لا لأن هذا سيكون من كرم أخلاقه، بل لأن حكومته تحتاج إلى أن تفتح صفحة جديدة مع شعبها ولأن بلاده فى أشد الحاجة إلى أن تفتح صفحة أخرى جديدة، شفافة، واضحة المعالم مع بقية العالم شعوباً وحكوماتٍ وأفراداً، لا بد من أن يعتذر الرئيس الأمريكى الجديد، لا لأن الاعتذار مذلة، بل لأنه منتهى عزة النفس ولأنه نبراس طريق فى عالم غامض يزداد غموضاً.

إذا كان كاتب خطاباته الذى صك له شعار Change We Want (التغيير الذى نريده) لا يتذكر فدعونا نساعده على التذكر باقتراح الاعتذار الذى نريده (Apology We Want) فى سياق خطاب التنصيب: «اسمحوا لى وأنا أقف أمامكم فى هذه اللحظات التاريخية أن أدعوكم إلى أن تشاركونى فى إلقاء نظرة إلى المستقبل ملؤها التفاؤل والإيجابية برغم كل الصعاب والتحديات التى تمر بها بلادنا ويمر بها العالم. غير أن من واجبى تجاهكم وتجاه الشعب الأمريكى كله باختلاف ألوانه ومشاربه أن أدعوكم قبل ذلك إلى أن تشاركونى فى إلقاء نظرة إلى الماضى القريب، نفتخر منه بما ينبغى أن نفتخر به، ونتعلم منه ما يمكن أن ينفعنا ونحن نبدأ صفحة جديدة. إن الأمم جميعاً تمر بلحظات ازدهار مثلما تمر بلحظات انهيار، لكنّ التاريخ يعلّمنا أن الأمم العظيمة فقط هى التى لا تفر من المسئولية وهى التى إن اضطرت إلى أن تخسر كل شىء لا تخسر أبداً روحها وأخلاقها».

انطلاقاً من هذا، اسمحوا لى أن أقدم جملة من الاعتذارات غير المشروطة إلى الشعب الأمريكى ونيابةً عن الشعب الأمريكى:

أولاً: أقدم اعتذاراً إلى أهالى ضحايا الحادى عشر من سبتمبر لأننا خذلناهم مرتين، مرةً صباح ذلك اليوم الأسود، ومرة حين لم نستطع أن نقوم بإجراء تحقيق جاد فى ملابسات ما حدث وأسبابه فاتخذنا طريقاً سهلاً يلقى باللوم على مجرد (فشل الخيال)، إلى أن نقوم بهذا لا أستطيع أن أعدكم بأن الحادى عشر من سبتمبر لن يتكرر مرة أخرى.

ثانياً: أقدم اعتذاراً إلى أهالى ضحايا الجيش الأمريكى فى العراق الذين يتعذبون كل يوم مرتين؛ مرة ً لأنهم فقدوا أبناءهم، ومرةً لأنهم فقدوهم دون مبرر عندما غزونا بلداً مستقلاً لم يؤذنا ولم تكن بيننا وبينه عداوة.

ثالثاً: أقدم اعتذاراً صادقاً للشعب العراقى وللإنسانية جمعاء عن كل القذارة والوساخة التى ارتكبها بعض منا فى أبو غريب وغيرها باسم الشعب الأمريكى ونحن منها براء، وأعدكم وأعد العالم بأن المسئولين عنها سينالون عقابهم الذى يستحقون.

رابعاً: أقدم اعتذاراً عن قيامنا باختطاف المشتبه بهم، فى إطار الحرب على الإرهاب، خارج الأطر القانونية وإخفائهم فى سجون سرية دون توجيه تهمة وتعذيبهم، وأعلن أمامكم انتهاء العمل بما يسمى برنامج الترحيل غير العادى.

خامساً: أقدم اعتذاراً خاصاً إلى المواطن الألمانى اللبنانى، خالد المصرى، الذى اختطفناه وأخفيناه وعذبناه لمجرد تشابه فى الأسماء، يمتد اعتذارى إلى جميع الأبرياء الذين تعرضوا للظلم والتعذيب دون أن تثبت إدانتهم، وأعلن استعداد الشعب الأمريكى لتقبل ما يراه القضاء مناسباً لرد اعتبارهم وتعويضهم.

سادساً: أقدم اعتذاراً إلى فقراء العالم وأغنيائه الذين يعانون دون ذنب من انهيار النظام المالى الذى تسببنا نحن فيه، وأعدكم بأن ننظر فى أمر تغيير هذا النظام من أساسه بما يحقق العدالة للجميع.

سابعاً: أقدم اعتذاراً إلى الشعب الفلسطينى الذى وعدناه لسنوات طويلة بدولته المستحقة وأعدكم بأن نعمل معه ومع القوى الإقليمية على استعادة حقوقه بما يحقق العدل والأمن والسلام للجميع. إن قضية فلسطين هى القضية الأم وهى مفتاح حل كثير من مشاكلنا نحن، ولا سبيل أمامنا سوى أن نضع مصالح بلادنا فوق مصلحة أى دولة أخرى مهما كانت.
إذا كان البعض قد استطاع أن يدفع البابا يوحنا بولس الثانى إلى تبرئة اليهود من دم المسيح فلا أقل من أن نتمسك نحن بقليل من احترام الذات حين يقف الحق فى صفوفنا.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة