فريدة الشوباشى

الغش وعلاقة السببية

السبت، 21 يونيو 2008 12:14 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تأخذ بعض الدول "بعلاقة السببية" فى قوانينها الجنائية، فمثلاً إذا ترك شخص كلبه الشرس فى الطريق، وعقر الكلب أحد المارة فأصابه بداء الكلب، مما يؤدى إلى وفاته، فإن العقوبة لا تقتصر على مجرد أن الرجل لم يحبس كلبه فى البيت، بل تتعداها إلى عقوبة القتل، لأن عضة الكلب المسعور أو الذى أصيب بالسعار، بعد خروجه من المسكن تسببت فى موت الرجل!

ولا أخفيكم أننى كنت أتعاطف مع هذا التوجه القانونى، فهل يجوز أن يعاقب صاحب عمارة بعقوبة استخدام مواد بناء غير مطابقة للمواصفات، عند انهيار هذه العمارة على رؤوس عشرات الضحايا من ساكنيها؟ وهى العبارة الخادعة لوصف "استخدام مواد مغشوشة"، مما أدى إلى قتل المواطنين قتلاً عمداً، حيث إن أى مقاول يعرف ويعى تماماً مغبة استخدام المواد المغشوشة..

وفى خضم الفضائح المتتالية حول تفشى الغش فى امتحانات الثانوية العامة، قفزت إلى ذاكرتى مسألة السببية، التى كانت ضمن دراستى للقانون فى كلية الحقوق جامعة القاهرة فى ستينيات القرن الماضى، وقفز معها عدد من الأسئلة الملحة وأنا أتمعن فى نتائجها المحتملة.. بل والمحتومة، فالمحظوظ سواء أكان ابن مسئول أو ابن شخص ثرى وقادر على "دفع الثمن"، سيجتاز امتحان الثانوية العامة بمجموع "يؤهله" لدخول كل كليات القمة.. فإذا دخل كلية الطب مثلاً، واستمر طبعاً فى تخطى مصاعب الدراسة بالغش، فسوف يتخرج طبيباً معتمداً "وقد الدنيا" ويفتح عيادة، تحتل فيها شهادة تخرجه صدر قاعة الاستقبال ممهورة بتوقيع المسئولين ومزدانة بختم النسر العتيد، وأكيد أن هذا الطبيب الذى لا يعرف عن الطب شيئاً يؤهله لعلاج المرضى سيقضى – جهلاً واستخفافاً بحياة الناس - على عدد لا بأس به من الساعين إلى الشفاء.. ونفس الشىء ينطبق على المهندس الناجح بالغش، أو خريج العلوم أو القانون أو الآداب، وكل واحد من هؤلاء سيتسبب فى إيذاء المتعاملين معه، وقد يصل الإيذاء إلى حد تكلفتهم حياتهم.. وتتسرب البرودة إلى عظامى من هول الغش وفداحته على المجتمع بأسره وفى كل الميادين، بينما يبدو وكأن الكارثة أمر عابر وبسيط، وليس تقويض مجتمع من جذوره يهدده الغش والغشاشون بالموت وجميع الأضرار المادية..

أما على الصعيد الأدبى والأخلاقى، فحدث ولا حرج، فلا رجاء فى مجتمع يترسخ فى وعى أبنائه أن الغش وحده هو طريق الوظائف المحترمة والمهن المرموقة والمناصب العليا.. أتصور أن فضيحة تسريب امتحانات الثانوية العامة بكل ملابساتها المشينة والمحزنة، تحتاج إلى وقفة صارمة مع الغشاشين والفاسدين ومعاملتهم على أنهم قتلة مع سبق الإصرار والترصد، لما يقترفون من جرائم تمثل عدواناً صارخاً على حق الحياة، وحيث إن علاقة "السببية" واضحة تماماً هنا، فلا يجوز أن توجه إلى هؤلاء الفاسدين تهم من عينة "مخالفة اللوائح" أو "الإخلال بالواجب المهنى" إلى آخر المصطلحات البيروقراطية المزعجة..

والأكيد أن الغشاش يسرق فرصة الطالب ،الذى يسهر الليالى ويبذل كل ما بوسعه من جهد، فإذا به يواجه - لاستبعاده والعدوان على حقه - بالعبارة الجديدة المشينة "غير لائق اجتماعياً! ولا يصبح أمامه إلا التحول إلى الغش والفساد أو "الانتحار يأسا"ً، كما سبق وحدث.. المثير والمرعب أن أحد التلاميذ ابتسم أمام الكاميرات، وهو يؤكد أنه يغش بل وأقسم "بالله العظيم.. أنا بغش" أية أجيال مصرية "صاعدة" فى ظل هذا المناخ الفاسد، الذى تتسع رقعته يوماً بعد يوم حتى بات الغشاش يعلن - بلا أدنى خجل طبعاً - بل أيضاً بلا أدنى خوف.. أنه يغش ويتفاخر بذلك!! إذن.. يا تلحقونا.. يا ما تلحقوناش!!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة