عاطف حزين

وقفة مصيرية مع الست فتحية؟!

الأحد، 15 يونيو 2008 01:09 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لو كانت الشعارات ترفع أمماً وتهبط بأمم لضمنت مصر مكانتها فى أعلى عليين، وما أدراك ما عليون. لكن من سوء حظنا أن الشعارات لا تختلف كثيراً عن مناديل الكلينكس.. مفيدة ومريحة ومعطرة، لكننا نرميها فى "الزبالة" بعد استعمالها لمرة واحدة. هكذا أبهرنى الشعار المواكب للمؤتمر القومى للسكان: "من أجل حياة بلا معاناة". وهكذا اندهشت للجملة التى تصدرت إعلانات المؤتمر فى الصحف والتليفزيون: "وقفة مصرية. وقفة مصيرية".

نعم انبهرت واندهشت وابتسمت, لكننى لم أصدق, ليس لأننى متشائم لا أرى غير النصف الفارغ من الكوب, وليس لأننى ـ بطبعى ـ ضد كل ما هو حكومى، ولكن لاعتبارات أخرى أظن أن الكثيرين سيوافقوننى عليها، تأملوا معى أولاً الشكل الجديد فى "البروباجندا الأمريكانى" المبهرة بصريا والمكلفة مادياً، والتى ظهرت إلى الوجود مع المؤتمرات الأخيرة للحزب الوطنى ثم مع انتخابات الرئاسة, هذا الشكل الذى يعتمد على نظرية الخداع البصرى، لم يلتفت إلى أن الناس أصبحت تتمتع بدرجة من الوعى والجوع أقوى من أن تهزها عبارات جميلة تغطى الشوارع والكبارى، وتتحدث عن مصر أخرى لا يعرفونها.

قطعاً كانت هذه الدعاية ستؤتى ثمارها فى حالتين فقط.. الأولى تغيير طريقة تفكير الشعب المصرى وهذا ـ من سوء الحظ ـ يستغرق زمنا طويلاً جداً، والثانية إزالة كل أنواع المعاناة، التى يقابلها المواطن المصرى منذ لحظة استيقاظه وبحثه عن رغيف خبز وطبق فول مدمس، وحتى عودته إلى سريره مرة أخرى للنوم، بعد مشوار عسير منهك قاتل لا يثمر إلا القليل الذى لا يقيم الأود.

لكننا على موعد مع "وقفة مصرية" تقول للناس أنتم السبب الرئيسى والوحيد فيما أنتم فيه من معاناة, إصراركم على التناسل والتكاثر هو الذى ابتلع كل محاولات الحكومة لتعليمكم أحسن تعليم ورعايتكم أفضل رعاية، وإسكانكم فى الفلل والقصور ورفع الحد الأدنى لمرتبات الموظفين إلى خمسة آلاف جنيه شهرياً.

هذه هى "الوقفة" التى اتخذ منها مؤتمر السكان شعاراً له، وهذه هى الرسالة التى تؤكد لنا للمرة الألف بعد المليون، أن هذا البلد سيظل على معاناته طالما أن المسئولين عنه يدفنون رؤوسهم فى الرمال، وبالتالى لا يمكن أن يروا الأمور على حقيقتها. لا يمكن أن أجادل فى أن الزيادة السكانية إذا لم يقابلها زيادة فى الموارد ستؤدى حتماً إلى المزيد من الفقر والعجز, لكننى يجب أن أناقش ـ دون مجادلة ـ مبدأ فى غاية الأهمية يتعلق بالمسئول عن الفشل طوال ثلاثين عاماً فى علاج زيادة النسل.

على مدى ثلاثين عاماً عاصرنا العشرات من الحملات الإعلامية فى الصحف والإذاعة والتليفزيون، استغرقت عشرات الملايين من ميزانية الدولة قبل أن تشترط المعونة الأمريكية تخصيص جزء محترم من دولاراتها لهذه الحملة, لكن كل هذه الحملات ذهبت أدراج الرياح لسبب فى منتهى البساطة هو أن لغة الخطاب فى تلك الحملات، كان أعلى كثيراً من مستوى الذين يتسببون فى الزيادة الرهيبة للسكان.. الذين لا يعرفون وسيلة أخرى للمتعة غير التناسل.. الذين يؤمنون بأن "العزوة حلوة حتى فى الكلاب".. الذين يعتقدون أن وسائل منع الحمل هى قتل للنفس التى حرم الله قتلها إلا بالحق.

نحن يا سادة يا كرام أمام طابور طويل من المسئولين توافدوا علينا واحداً بعد الآخر، دون أن يصدف أن يكون أحدهم مؤهلاً لمخاطبة هذا الشعب الذى تبلغ نسبة الأمية فيه 70%.. المسئولون الذين يتحكمون فى تعليمنا وصحتنا وأكلنا وشربنا لا يجيدون إلا مخاطبة حملة المؤهلات العليا والدكتوراه, الذين جاءوا وذهبوا وجاء غيرهم وذهب، لم يكتشفوا أن مصر ليست هى القاهرة والإسكندرية، ولكنها آلاف النجوع والكفور والعزب التى يتجول فيها الأطفال ذكورا وإناثاً بدون ملابس داخلية فى عز البرد. هؤلاء الأطفال نتاج للقاء أباء وأمهات لن تفلح معهم نصائح الست كريمة مختار والست وفاء عامر، وأى ست فى بر مصر تتصور أن كل الذين يجلسون أمام شاشة التليفزيون يفهمون كل ما يبث من خلاله.

صدقونى أنا لا أسخر من مسئول لم ينجح فى الوصول إلى المواطن الأمى, بل أتألم لأن دولة صغيرة نجحت فى سنوات قليلة جداً فيما فشلنا نحن فيه, رغم أننا بدأنا المشوار بدرى, تونس الصغيرة فى المساحة أثبتت حكومة وشعباً أنها كبيرة جداً فى التعامل مع الأزمات. تونس فى عهد زين العابدين بن على لم تنجح فقط فى وقف الزيادة فى السكان، بل أصبحت هى الدولة الوحيدة فى العالم التى يتناقص سكانها لأن الذين يتوفون نتيجة الشيخوخة أكثر من الذين يولدون.

تونس هى البلد الوحيد فى العالم الذى تُغلق فيه المدارس وتتحول إلى نشاط آخر لأنها أكثر من عدد التلاميذ. تونس نجحت فى ذلك مثلما نجحت فى مضاعفة دخلها من السياحة عشر مرات، تونس التى لا يفصلنا عنها إلا ساعتين طيران لم يفكر أحد مسئولينا فى زيارتها بهدف الاطلاع على تجربتها فى التحكم فى عدد السكان، التى أدت بالضرورة إلى رفع مستوى دخل المواطن التونسى إلى الدرجة التى جعلته لا يفكر مثلنا فى السفر إلى دول الخليج لكى يوفر الأكل لأولاده.

لقد نجحوا فى تونس كما علمت ورأيت لأنهم أخذوا بالأسباب التى تؤدى إلى النجاح، نجحوا لأنهم يريدون أن تصبح بلادهم أحسن بلاد الدنيا، ومواطنوهم أفضل مواطنين فى المنطقة، ومستقبل أولادهم أهم من مستقبل أى شىء آخر, لكننا مازلنا نعالج المسألة على طريقة: "أنت السبب يا فتحية فى اللى إحنا فيه.. قلت لك خدى الحبوب.. قلت لك ركبى لولب.. يالا دورى بقى على اللى هيصرف عليكى أنت وولادك".

هكذا تعالج مصر "أم موش عارف كام ألف سنة حضارة" مشكلة زيادة السكان, هذا إذا سلمنا بأن هذه المشكلة هى السبب الرئيسى فى تحويل الوطن إلى حفرة عميقة لا سبيل إلى النجاة منها, الزيادة السكانية مشكلة كبيرة نعم ولكن فى حالة عجز الحكومة التى تدير هؤلاء السكان على إدارة مواردها واستثمار الهبات التى وهبها الله لبلادهم. حكومات متعاقبة لم تزد رقعة الأراضى المزروعة، ولم تتبع سياسات تؤدى إلى زيادة الإنتاج والتصدير, ولم تفكر فى الابتعاد عن الشريط الضيق الذى نعيش حوله, حكومات أدخلت المياه إلى سيناء لكى تزرعها لكنها ظلت على حالها, حكومات أوصلت المياه إلى توشكى ثم اكتشفت أنها اشترت التروماي.

حكومات تفرض الضرائب الباهظة على شعبها دون أن تقدم له فى المقابل الخدمات التى يستحقها, حكومات تأخذ من المواطن 60% من راتبه قبل أن تمنحه علاوة لزيادة الراتب بنسبة 30%. هذه هى العقلية التى تحكم مصر.. عقلية لم تفكر مرة واحدة فى الاستفادة من الدول التى نجحت فى الحد من زيادة سكانها, كما لم تفكر فى الاستفادة من الدول التى يزداد عدد سكانها كل يوم مليون نسمة, لكنها تحقق كل يوم تنمية تكفى لإطعام عشرة ملايين بنى آدم. فأى وقفة مصرية يمكن أن تجدى طالما أننا نعلق الجرس فى رقبة فتحية.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة