من منا لا يتذكر أبرز المشاهد السينمائية التى نراها فى الكثير من أفلامنا المصرية، وهى صراخ سيدة تستغيث بمن حولها لإنقاذ حقيبتها من يدى الحرامى، وهى تنادى (امسك حرامى) ليتجمع المارة فى الشارع ويجرون وراء الحرامى لإيقافه والإمساك به لنرى بعدها طوابير طويلة من الشباب والأطفال والسيدات والرجال يجرون وراء هذا الحرامى.
هذا المشهد تكرر كثيراً فى العديد من الأفلام، وإن اختلفت الطريقة فالمضمون واحد حتى تعلق فى ذاكرتنا.
لكن ونحن اليوم فى العام الثامن من الألفية الجديدة تغير هذا المشهد ليتحول إلى جزء صغير من اللامبالاة والخوف التى يعيشها الشعب حالياً وهذا ما حدث فى شارع الهرم، عندما كنت عائدة إلى منزلى حوالى 9 مساءً، وفجأة استوقفنى نداء سيدة عجوز فنظرت من حولى لأكتشف مصدر هذا الصراخ فوجدت نداء مساعدة من هذه السيدة سرقت منها حقيبتها بيدى شاب، حيث كانت تشترى متطلباتها من شارع الهرم الذى يتميز بالزحام.
لاحظت أن الحرامى شاب صغير يرتدى ملابس "كاجوال"، ويضع الجيل فى شعره (حرامى روش يعنى) وكانت المفاجأة بالنسبة لى أن كل المشاة فى الشارع ينظرون فقط وكأنهم فى دار عرض سينمائى يرون مشهداً من فيلم يعرض على الشاشة وهم على مقاعدهم يشاهدون ويعلقون فقط.. وهذا ما حدث.
السيدة تحاول أن تلحق بالشاب وتجرى بخطوات بطيئة وراءه والشاب يجرى بسرعة متوسطة وكأنه يثق أنه لا يوجد أحد فى الشارع وكل الأشخاص فى الشارع رفعوا شعار (وأنا مالى) رغم أنه كان من السهل جداً إمساك الحرامى وإنقاذ حقيبة السيدة. وهنا تحولت الجملة الشهيرة من (امسك حرامى) إلى (سيب حرامى.. أنا مالى). كم شعرت وقتها بأسف هذه السيدة وسخونة جسدها من حرق دمها وبرودة مشاعر الناس وافتقادهم النخوة والرجولة فأصبحت هذه المصطلحات غريبة الآن علينا.
د.محمد صادق - أستاذ الاجتماع بكلية الآداب جامعة القاهرة - فى دراسة بعنوان "الأمن الاجتماعى المفقود فى الشارع المصرى"، يرصد خلال الفترة ما بين شهرى أكتوبر 1997 ومارس 1998 العديد من الوقائع الاجتماعية فى شوارع محافظتى القاهرة والجيزة، وردود أفعال القائمين بها والمتابعين لها، والتى تؤكد انعدام الأمن الاجتماعى فى العلاقات السائدة بين المصريين، ويمكن تلخيص ملاحظاته فيما يلى:
- انعدام الشهامة والشفقة الاجتماعية، حيث التعامل السلبى غير الإنسانى من الشباب تجاه المسنين والمعاقين فى الشوارع وأثناء ركوب السيارات العامة، وكذلك عدم الاهتمام بحقوق الجيرة والصداقة.
- السباب العلنى بين الناس أصبح صورة يومية من المعاملات بين المستويات الاجتماعية العادية والمستويات الراقية فى أوضاعهما الاجتماعية وخلافات بينهما تصل إلى حد ظهور ألفاظ يعف القلم عن كتابتها، وإذا حاول الطرف الضعيف أن يستنجد بالآخرين للحصول على حقه قام الآخرون بعمل توازنات لطبيعة الموقف والمصالح المشتركة، واتجهوا لمساندة الطرف الأقوى دون اعتبار لمبادئ الحق والعدل، إلى جانب وجود خلافات علنية بين النساء فى أحياء معينة مدعمة بألفاظ نابية ووضيعة وقد يتدخل أزواج هؤلاء النسوة بنفس أسلوبهم وسلوكهم.
- انعدام الألفة بين الناس، ويظهر ذلك فى صور متباينة من الأخلاقيات السلبية الواضحة فى السيارات العامة والميكروباصات والشوارع تعكس مدى النفور الاجتماعى فيما بين الناس.. وعدم الرغبة فى تهدئة حدة الانفعال الظاهر من الكل للكل ودون حدود أو ضوابط، إلى جانب الخلافات العائلية بين إخوة وأخوات وأزواج وزوجات يسيرون فى الشارع أو يركبون سيارات عامة.. وقد يكون السبب أكثر من تافه.
- انفلات القواعد الأخلاقية وتظهر بوضوح فى معاكسات الشباب لسيدات يمشين فى الشوارع بمفردهن، وإذا ما حاولن الدفاع عن أنفسهن يواجهن بالسخرية والألفاظ البذيئة أو التهديد.
- انعدام المشاركة الوجدانية بين الجيران، ويظهر ذلك فى حالات الأفراح والمآتم عندما تحدث فى مكان واحد فلا أحد يحترم مشاعر الآخر ويقدر الظروف التى يمر بها غيره، وكثيراً ما تحدث حوارات قد تصل إلى حدود غير منطقية وشجار وسلبية ملموسة ممن يتابعون القضية.
- الأنانية دون النظر لمشاعر الآخرين، ويظهر ذلك فى صور من رغبات الأفراد المحمومة للاستحواذ على كل شىء والتكالب على الحياة.. وتلك الصور واضحة فى الشارع والعلاقات الاجتماعية وبين أصحاب المحلات، وقد تترتب على ذلك مشاجرات حامية وتأييد كاذب للقوى من الآخرين دون إحساس بالضعيف المقهور.
مما يدعونا للنظر مرة أخرى فى أحوال هذا الإنسان المصرى، الذى غيرته الحياة وطحنته وغيرت سلوكه من مواطن اجتماعى متعاون إلى فرد بلا شهامة، خاصة أن هذه الدراسة ظهرت نتائجها فى 1998، فما بالك بعام 2008. ترى ما السبب؟.. ويكفينى أن أنهى سطورى بجملة (مصر لسه بخير).
من "امسك حرامى" لـ"سيب حرامى":
تراجع النخوة فى الشارع المصرى
الخميس، 12 يونيو 2008 09:18 م