حين وصلنا إلى العريش، كان الوقت ليلاً، واتصل مرافقنا ليقول إنه سيتأخر لأنه فى حفل زواج، فقررنا لقاءه سريعاً، ونحن نمنى أنفسنا بفرح بدوى، إلا أننا عندما وصلنا إلى المكان فوجئنا بموسيقى غربية صاخبة، وقاعة كأى صالة أفراح عادية، وأزياء حديثة، والجميع يرقصون فى صخب.
الأمر كان محبطاً، ليست هذه سيناء التى توقعنا أن نراها، فقررنا المغادرة، إلى وسط المدينة لتناول العشاء، طلبنا مطعماً سيناوياً متخصصاً، فقال مرافقنا بعد حيرة "مافيش حاجة كده، الموجود هنا مطاعم كباب وفراخ وفول وطعمية وكشرى".
الشغل كله فى العريش
سألنا مرافقنا إن كان يعرف أحداً من مدينة "نخل" فى وسط سيناء، فعلق "لا فائدة من زيارة الوسط، لأن الشغل كله هنا فى العريش"، وعن طبيعة هذا "الشغل كله" قال: "الاستعدادات للاحتفال بعيد سيناء، والصحفيون كلهم بييجوا سيناء علشان المحافظ بيفتتح حاجات كتير"، واستطرد: "شوفوا يا أساتذة، توقيت الزيارة الصح للصحفيين يكون فى 24 أبريل، كل الصحفيين بيعملوا كده، خليكوا لحد اليوم ده".
فى طريقنا إلى الفندق سألنا سائق التاكسى الفلسطينى، هل يتمنى فتح الحدود مع غزة مرة أخرى، فعلق باسماً "والله الغزاوية أهلى وناسى، واللى بيحصل هناك ظروفاً صعبة جداً، لكن أتمنى أن تحلها الدولة من غير فتح الحدود" سألناه عن السبب فقال "أنا شغال على التاكسى ده بس، وأنا والمدام كنا بنحوش علشان نشترى أجهزة كهربائية، وكل مرة نفكر نشترى جهاز، نقول لاء نستنى شوية كمان، علشان نشتريهم كلهم مرة واحدة، كل ده ضاع مع فتح الحدود، كنت باشترى 15 فرخة كل يوم علشان أقاربنا اللى وصلوا من غزة، وبعد ما مشيو البلد كلها جاعت علشان الحكومة قطعت عننا الأكل والشرب وكل حاجة، ربنا يستر وماتتفتحش تانى" وحكى عن حماته التى طلب منها التليفزيون المصرى أن تقول كلمتين شكر فى الحكومة، فقالت: "نشكر المصريين على فتح الحدود، كما نشكر الإخوة اليهود على إتاحة هذه الفرصة" واستطرد "يعنى تقول المصريين حاف، وتقول الإخوة على اليهود".
سالم العكش ..
فى صباح اليوم التالى توجهنا إلى مجلس محلى المحافظة فى العريش، حيث كانت تتم انتخابات رئيس ووكيلى المجلس، أخذنا مرافقنا إلى رجل يرتدى جلباباً أبيض، وعقالاً وقال "ده سالم العكش، سلموا عليه وباركو له، لأنه سيكون رئيس المجلس"، وفى قاعة المجلس الفسيحة لاحظنا الأناقة، والثراء على جميعالأعضاء، لا فرق بين ممثلى الوسط والشمال، قابلنا أمين الحزب الوطنى، فطلبنا الحوار معه حول طريقة اختيار أعضاء المجلس، فتعلل بأنه مشغول، وقال "طبعاً توازنات قبلية"، ومضى فى طريقه، التقينا بالشيخ محمد أبو عنقة أحد شيوخ قبيلة "الإحيوات" وعضو مجلس محلى المحافظة عن "الحسنة"، والذى حدثنا عن حاجة وسط سيناء للمياه الحلوة والكهرباء، وعن ترعة السلام التى لم تصل حتى الآن، وحصص الدقيق التى تقلصت، وبطالة الشباب، وعندما قاطعه أحدهم متسائلاً "تبع مين دول"، رد عليه: "تبع صحيفة الوطنى اليوم"، فأوضحنا له أننا من "اليوم السابع"، وهى صحيفة مستقلة، فتوقف عن الكلام متعللاً بأنه مشغول.
رئيس المجلس الجديد، سالم العكش، تحدث طويلاً عن التنمية الغائبة فى شمال ووسط سيناء، وعندما سألناه عن علاقة الأمن بسيناء، أجاب بحدة "لا توجد سطوة للأمن على سيناء، وشيوخ القبائل والعشائر هم الذين يحكمونها، والمحليات والمجالس التنفيذية هى التى تحكم".
المحطة الأهم فى رحلتنا كانت زيارة "نخل"، مدينة الوسط الرئيسية، وقلب المنطقة السوداء، والمكان الذى تشير إليه تقارير الأمن، كبؤرة أصيلة لتهريب البشر، والسلاح، والمخدرات، سائقو التاكسى فى العريش حذرنا بعضهم أنها منطقة خطيرة، وأن الناس هناك "تشمط" أى تسرق أى شىء وقال البعض إن رجالها لا يتورعون عن ارتكاب أى جريمة لصالح من يدفع، بينما كانت للبعض منطقة الفقر والبطالة، يسجن أبناؤها، فلا يجدون متنفساً لهم سوى الجبال، وهى لآخرين المنطقة الأولى على بال أمن الدولة بعد تفجيرات "طابا" فأطلق قبضته يميناً ويساراً، ليعتقل أبناؤها، الذين حكم بالإعدام على أحدهم.
فى منتصف الطريق إلى "نخل" أشار "عم جمعة"، سائق التاكسى: "هو ده مصنع حسن راتب" لنجد مبنى ضخماً تمتد الخراطيم بينه، وبين مواقع استخراج الأسمنت، على الجانب الآخر، والمبنى يشبه كائناً خرافياً فى الصحراء، بينما علق السائق "شفتو جبل الأسمنت ده، أهى الحكومة باعته لحسن راتب بعقد مش عارف مدته 30 سنة أو 300 سنة".
بوادر العمار
مع بزوغ الملمح الأول للعمار، أشار السائق "هذا مركز الحسنة"، ولم يكن هذا المركز سوى مبنى من عدة طوابق للمغتربين، وبيوت متناثرة هنا وهناك، ساعة ونصف تقريباً، وظهرت مدينة "نخل" التى يتبعها عشر قرى، كافتيريا "القدس" هى المعلم الوحيد الذى وجدناه، فجلسنا إليها انتظاراً لمرافقنا رامى النخلاوى، وهو شاب يعمل فى إعادة ترميم "قلعة نخل"، التابعة لهيئة الآثار، وهى واحدة من فرص العمل النادرة والمؤقتة التى تقدمها الحكومة لأبناء نخل من وقت لآخر، وهناك التقينا بشابين انفجرا فى شكوى مريرة من انعدام فرص العمل، ومياه الشرب، ولا تنتهى عند فساد السياسة وإفساد الساسة.
أهالى نخل حدثونا عن "رئيس جمهورية الوسط" عطية سليمان جردود، عضو مجلس الشورى الذى ظل رئيساً لمجلس محلى المحافظة سبع سنوات، ختمها بتعيينه فى مجلس الشورى قبل عام ونصف العام، وحدثونا عن الفساد فى الانتخابات، وكيف أن قرية يبلغ عدد سكانها 200 مواطن تسجل فى الانتخابات إلى 2000 صوت، كما حدثونا عن المدارس التى لا يعين فيها سوى أبناء العريش، والمحافظات الأخرى وتشغلهم محلات البقالة التى يفتتحونها عن العمل، فلا يتعلم الأطفال، وعن المستشفى الخالية من الأطباء والدواء و الأراضى المحرومة من آبار المياه، والجبال التى يعثرون فيها على هياكل عظمية لشهداء الحرب، وعن المغتربين الذين يحصلون على عقود ملكية المنازل والوظائف التى لا يقربونها هم، فتركنا البلدة دون سؤال أهلها عن علاقتهم بالتجارة غير المشروعة، والإرهاب، والجريمة، لأننا لم نتمكن من إجابتهم على سؤال: "لماذا تنسانا الحكومة؟".
فى عودتنا مررنا بترعة السلام الجافة من المياه، وقبل أن تصعد بنا السيارة إلى كوبرى السلام، كان بطل المشهد الأخير فى رحلتنا، ضابط الشرطة الذى استوقفنا فى "كمين" مطالباً بنزولنا للتفتيش،،وحين رفضنا بإصرار، أعاد البطاقات، بينما السائق العرايشى يقول: "لو كنتم من سيناء لكن الأمر مختلف".
موضوعات متعلقة
◄شباب سيناء بين "ظلم الوطن" و"إغراء العدو"
◄منير شاش: سيناء تعانى الإهمال والحكومة غير مهتمة
◄ التنمـية غائبة ونواب سـيناء يتهمون الحكومة
◄ الحكومة طردت البدو من سيناء لتقيم القرى السياحية
◄مستشفى نخل العام.. لا أطباء ولا علاج ولا مرضى
25 أبريـل .. دمـوع فـى عيـون ســــيناء ..... صــدمتنا العريش بغياب الحياة البدوية وثراء النواب
الأربعاء، 23 أبريل 2008 02:33 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة