إن الأحزاب السياسية الشرعية فى أى مجتمع ديمقراطى هى التى تسمح للناس أن يمارسوا تأثيراً عاماً كبيراً فى كافة المجالات، فبدون هذه الأحزاب والرابطات الاجتماعية لا يستطيعون أن يمارسوا أى تأثير.
والأحزاب السياسية كما هو معروف – علمياً- تجمع بين أولئك الذين يتشاركون فى آراء ومصالح متماثلة لتنظيم حملات للوصول إلى المناصب السياسية والنفوذ السياسى. وهى تؤدى عدداً من الوظائف المختلفة، فهى بالنسبة لجموع الناخبين تساعد على تبسيط الاختيار الانتخابى بعرض مواقف سياسية عامة وبرامج يختارون بينها.. أما بالنسبة للحكومات فهى توفر قاعدة مستقرة بدرجة معقولة من المؤيدين السياسيين لتمكينها من إنجاز برامجها إذا ما تم انتخابها، وبالنسبة لمن هم أكثر التزاماً على الصعيد السياسى فالأحزاب هى التى تهيئ الفرصة للمشاركة فى الشئون العامة ووسيلة للتوعية السياسية، وقناة للتأثير فى السياسة العامة.. وبخصوص التجربة الحزبية المصرية، فإنه منذ إعادة ضخ أكسجين التعددية الحزبية فى أواسط السبعينيات، بعد مرحلة طويلة من سيطرة تنظيم واحد على الحياة السياسية منذ صعود الضباط الأحرار إلى سدة الحكم عام 1952م، وهذه التعددية قد شهدت حالات من الحيوية والنكوص، فبعد أن بدأت هذه الحياة بثلاثة أحزاب، حتى صارت الآن 24 حزباً فى ثلاثة عقود.
إلا أن اللافت للأمر والمثير للدهشة أن الكثير من هذه الأحزاب لا يعرف أسماءها سوى مؤسسيها الذين لم يتجاوزوا- طبقاً للائحة القديمة- خمسين مؤسساً، وأحزاب مثل التجمع الوطنى التقدمى، والحزب الاشتراكى العربى الناصرى، وحزب الوفد الجديد تعد من "أكبر" الأحزاب المصرية- حضوراً- وليس تأثيراً فى الحركة السياسية بحكم انتماءاتها الأيديولوجية الواضحة والتى يعتنقها بعض القوى الاجتماعية الواضحة أيضاً.. وظلت هذه الأحزاب الثلاثة حتى الآن هى الأكثر حضوراً- كما قلت- فى الحياة الحزبية رغم ضآلة عدد أعضائها ورغم ضعف تأثيرها فى الشارع السياسى، ورغم عدم قدرتها بعد كل هذه السنوات على خلق كوادر سياسية لامعة ومؤثرة، ورغم أيضاً- وهو الأهم- عدم تواجدها بشكل مؤثر فى كل الانتخابات على كافة مستوياتها سواءً البرلمانية أو الشورى أو المحليات.. والدليل هو عدد أعضاء هذه الأحزاب فى مجلسى الشعب والشورى والذى يثير أكثر من علامة استفهام عن مدى تأثيرهم ونجاحهم فى خلق تواجد سياسى ومجتمعى واضح.
فإعداد أعضاء مجلسى الشعب والشورى المنتخبين وليس المعينين فى هذين المجلسين يشير إلى حجم تأثيرهم الحقيقى فى الشارع السياسى، رغم إدراكنا العميق بالدور الرهيب لما يسمى "الاقتصاد الانتخابى" أو تمويل الحملات الانتخابية والرشاوى، وغير ذلك فى عملية الانتخابات والتى لا يقل دورها عن دور القناعات الشعبية للأيديولوجيا وبرامج أى حزب من هؤلاء فى الشارع السياسى.
ولكن المشاهدة المثيرة للدهشة.. فرغم تباين أيديولوجيات هذه الأحزاب الثلاثة- بعيداً عن أى من الأحزاب الطارئة أى الأحزاب التى لا نعرف اسم رئيسها- ورغم تباين برامجها السياسية والاقتصادية- على سبيل المثال- حزب الوفد وحزب التجمع والحزب الناصرى، نراهم بين الفينة والأخرى يتحدثون عن إقامة تحالف بينهم. بل والأغرب شاهدنا من قبل تحالفات بين بعض من هذه الأحزاب وبين الجماعة المحظورة "جماعة الإخوان المسلمون".. وبعيداً عن هذا التحالف المحظور.. فلنتحدث عن تحالف أحزاب سياسية تختلف فى أيديولوجيتها وبرامجها، بل وفى تاريخها السياسى سواءً العملى أو المرجو اختلافاً عميقاً.. وهو الذى يطرح السؤال: لماذا التحالف؟ ولأى غرض؟ وما النتيجة أو المحصلة النهائية لهذا التحالف؟ وما هو حجم الاتفاق بين هذه الأحزاب حتى تتحالف؟
الإجابة واضحة للعيان.. وهى تتلخص فى عدة إجابات:
(1) زيادة عدد أعضائهم فى مجلسى الشعب والشورى، فبدلاً من 2، أو 4، أو 6، يأملون أن تكون 10 أو 12أو 14، وهذا على أقصى تقدير، لو استبعدنا- الجماعة المحظورة- لأن لهذا حديثا آخر.
(2) بلغة الغضب، حتى يشفوا غليلهم من الحزب الحاكم- أى الحزب الوطني- والمعروف يقيناً أن ما يسمى الاقتصاد الانتخابى يلعب دوراً كبيراً فى وصول العديد من أعضائه إلى هذين المجلسين وليس أدل على ذلك من الأعضاء الذين قاموا بترشيح أنفسهم فى انتخابات 2000 و 2005 بعيداً عن الحزب رغم انتمائهم عقلاً ووجداناً لهذا الحزب، ولكن لم يقم المجمع الانتخابى للحزب بترشيحهم.. وفازوا بأموالهم بغض النظر عن إعادة قيدهم مرة أخرى أم لا. أقول رغم كل ذلك، فإن السبب الثانى أو الإجابة الثانية- بلغة الغضب- أن يقتنصوا عدداً من المقاعد فى هذين المجلسين من هؤلاء سواءً المرشحين على قوائم الحزب أم المرشحين كمستقلين غاضبين ومعترضين عن عدم ترشيحهم على قوائم الحزب الحاكم.
(3) بلغة المصالح المشتركة أو بمعنى أدق بلغة توفير الإنفاقات المشتركة- أو بمعنى أكثر دقة- بلغة التحالف الأقل عداوة تجاه العدو المشترك.. أى تتحالف هذه الأحزاب لاجتذاب ما يسمى بالمحتجين أو المعترضين على سياسات الحزب الحاكم- بغض النظر عن توجهات هذه القوى الاجتماعية.. وتوجهات هذه الأحزاب السياسية.. وبغض النظر أيضاً عن الطموح النهائى أو الأجندة النهائية لها.
أتصور أن هذه هى الأسباب الثلاثة لتحالفات الأحزاب.. ولكن هل سأل سائل أن هذه التحالفات تؤذى وتضر هذه الأحزاب أكثر مما تفيدها.. فكيف يتحالف حزب يدعى الليبرالية كنهج سياسى واقتصادى مع حزب برنامجه السياسى والاقتصادى عكس ذلك، حزب يدافع عن القطاع العام وضد التخصيص، وتدخل الدولة وغير ذلك.. كيف يتحالف حزب كان ولا يزال ضد ثورة 1952 وما أنجزتها، مع حزب كان من ألد أعداء هذا الحزب القديم قبل 1952م.. حزب اعتبر ثورة 1952 انقلاباً عسكرياً دمر المدنية والحياة السياسية والحزبية، يتحالف مع حزب زعيمهم ألغى كافة الإنجازات السياسية قبل عام 1952م.. كيف يتحالف حزب معظم عناصره وقادته كانت فى سجون العصر اليوليوى مع حزب كانت رجالاته قبل تأسيسه هى المسئولة عن هذه الاعتقالات والتعذيب والاستبعاد.
من المفترض فى مجتمع ديمقراطى رشيد وصحى أن يكون الهدف الرئيسى لأى حزب من الأحزاب أن يسعى عبر تجهيز آلياته السياسية لأن يصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع لتنفيذ برنامجه السياسى والاقتصادى الذى على ضوئه تم انتخاب أعضائه.. وليس فقط مجرد أن يكون للحزب مقعد أو اثنين أو ثلاثة فى البرلمان.
من هنا.. فإن هذه التحالفات المزعومة تضر بسمعة الحزب وتشكك فى قدراته بل وفى نواياه.. وتقلل من هيبته ومصداقيته بين أعضائه.. فالمثل الشعبى القديم "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمى على الغريب" إنما هو درب من السفسطة والجاهلية وعدم المصداقية.. فالأصل فى الموضوع أن يكون لكل حزب تفرده عبر برنامجه السياسى والاقتصادى.. وأن يدافع عن طموحه فى تنفيذ هذا البرنامج عبر الآليات الديمقراطية وليس عبر التحالفات المخادعة..
من هنا فإن أية تحالفات سواءً بين الأحزاب الثلاثة الكبيرة.. أو بينها وبين الأحزاب الطارئة التى لا تمتلك لا برنامج سياسى واضح ولا أى تواجد فى الشارع السياسي، فستكون تحالفات مؤذية ومهدرة للطاقات الحزبية، وستستغل حيزاً كبيراً من مجهودات تلك الأحزاب، فبدلاً من تطوير هياكلها التنظيمية واستقرارها وإفراز كوادر تنظيمية وحزبية على مستوى راق من الأداء السياسى والجماهيرى، ستجد نفسها مشغولة بهذه التحالفات والتربيطات غير المجدية..
وكل هذا يعنى أن على الأحزاب –الشرعية- ذات المصداقية أن تبقى على اتصال بالرأى الشعبى فى صوغ برامجها وفى اختيار مرشحيها للمناصب العامة، فإن لم تفعل ذلك، فسوف تفقد نفوذها لصالح أحزاب أخرى أو تساعد على ظهور أحزاب جديدة لملء الفراغ.. وهذا ما حدث بعد ذلك بعد وصول عدد الأحزاب الشرعية إلى 24 حزباً.. لا يعلم اسمها سوى رئيس لجنة شئون الأحزاب.. هذا هو دور الأحزاب السياسية الحقيقى.. وليس تحالفات من النوع الذى تشهده مصر المحروسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة