كتب إبراهيم أحمد عرفات
ما هى أهم أسباب تقدم اليابان وتحولها من دولة نامية إلى دولة متقدمة؟، كان هذا السؤال الرئيسى للمحاضرة التى شاركت فيها بالحضور لبروفسيور يابانى فى جامعة طوكيو اسمه كينيتشى أونو، فى أحد مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمصر، كان يستعرض فيها التنمية الاقتصادية فى اليابان.
وبعد انتهاء المحاضرة، قفز إلى ذهنى صورة نمطية، دائماً ما أشاهدها عندما يتم الحديث عن الوضع الاقتصادى فى البلد، حيث غالباً ما تثار المقارنات بين مصر واليابان، مصر والنمور الأسيوية، مصر وأمريكا، مصر وأوروبا، سواء بين المصريين فى تجمعاتهم العادية أو فى نقاشات المفكرين والمتخصصين، والتى غالباً ما تقتصر على استعراض الماضى البعيد وحضارة 7000 آلاف سنة، الذى كانت فيه هذا البلد متقدمة عن هذه الدول، وتنتهى بـ"ندب" الحظ والظروف، دون التفكير فى كيفية الاستفادة من هذه التجارب.
لن أستعرض ما قاله البروفسيور أونو عن التجربة اليابانية ونهضة بلاده، ولكنى سأركز على الأسباب الحقيقة وراء هذا التقدم الاقتصادى، والذى جسد بالفعل أزمة مصر اقتصادياً وانعكاساتها السياسية والاجتماعية، حيث بدأ برنامجنا للتنمية الاقتصادية مع النمور الأسيوية (ماليزيا وكوريا الجنوبية والفلبين وإندونيسيا وفيتنام وتايوان) بجانب اليابان فى عام 1960، إلا أن هذه الدول، التى مرت بأزمات لا تقل فى حدتها عن أزمات مصر كالنكسة وحرب أكتوبر، تخطتنا اقتصادياً بمراحل، جعلت منها قوة اقتصادية كبرى ناشئة، بينما ظلت بلادنا دولة نامية.
إذن كيف نهضت اليابان ولماذا لم تنهض مصر؟ الإجابة هنا تكمن فى عاملين أساسيين: الأول، الحفاظ على الهوية، أما العامل الثانى، يتمثل فى القطاع الخاص..
فبالنسبة للهوية، فقد حافظ اليابانيون على هويتهم "التى تحدد الانتماء، هل انتماؤك للبلد أو لتيارات سياسية أو دينية". وتشير تجربة اليابان أنهم استطاعوا إدارة الصراع بين عاداتهم وتقاليدهم الداخلية القديمة مع القيم العادات الخارجية، لذلك تغير المجتمع اليابانى تماماً ولكنه محافظ على أسس هويته وانتمائه، بعاداته وتقاليده، بعد أن أخذ ما يتناسب معه من القيم الخارجية، ليظهر نموذج يابانى محلى يتوافق مع خصوصيتهم.
أما نحن فى مصر، فلدينا ثقافة القبول المطلق أو الرفض المطلق للقيم والأفكار الخارجية، ولا عجب فى أن نرى جدلاً وسجالاً فكرياً بين اليسار واليمين، لك يدافع عن مبادئه دون النظر إلى الواقع المصرى وخصوصيته، كيف؟ ظهر هذا بوضوح فى العصر الحديث تحديداً، فعندما تبنت القيادة السياسية المبادئ الاشتراكية، تم قبولها بشكل مطلق، بأركانها وأسسها، والتى كان من أهمها: ملكية الدولة للأدوات الاقتصادية (الصناعية والزراعية والخدمية)، وعندما تم التغيير وسميت بالاشتراكية العربية، كان السبب (وفق ما قاله لى أحد أعضاء الاتحاد الاشتراكى أيام الرئيس جمال عبد الناصر)، أن الاشتراكية الشرقية تساوى بين الرجل والمرأة فى التوريث، بينما الشريعة الإسلامية تقول غير ذلك!!
وعندما بدأت مصر فى التحول نحو الليبرالية والرأسمالية الاقتصادية، تم الاعتماد على النموذج الغربى تماماً، وبدأت تعطى امتيازات مطلقة لرجال الأعمال والقطاع الخاص، ضمن برنامج الخصخصة، وانتهت الحالة إلى سطوة رجال المال على كل شىء بما فيها القرارات السياسية، ناهيك عن مليارات مصر التى تم تهريبها للخارج جراء الثقة المطلقة لرجال الأعمال، الذين تعاملنا معهم على إنهم ملائكة.
والحق يقال هنا، إن برنامج الخصخصة المصرى، من أفضل برامج التحول الاقتصادى نحو اقتصاد السوق، لكنه لم يطبق بشكل سليم، وشابه العديد من التجاوزات التى بدأت آثارها تظهر مع نقص السيولة فى مصر، والدليل على ذلك أن روسيا ودول شرق أوروبا أرسلت فى منتصف التسعينيات وفوداً رسمية للإطلاع على برنامج الخصخصة لدينا، ونجحت دول منها فى تطبيقه بشكل جيد، وكان بمثابة تأشيرة دخول بعض منهم إلى دول الاتحاد الأوروبى!!
تقود هذه النتيجة، إلى العامل الثانى لنهوض اليابان، وهو القطاع الخاص، فقد أشار البروفسيور أونو إلى أن رجال الأعمال اليابانيين وشركاتهم الخاصة كان لهم دور مهم فى نهوض بلاده، وقد انبهرت خلال المحاضرة باستعراض لأسمائهم وشخصياتهم، منذ منتصف القرن التاسع عشر، منهم مؤسس مجموعة ميتسوبيشى وهوندا للسيارات، كان يتحدث عنهم بكل فخر لأنهم ساهموا فى دعم قوة بلاده، وعندما تطرق بالحديث إلى مصر قال إن القطاع الخاص فى مصر "ضعيف" وحمله سبب التراجع والتردى الاقتصادى الذى نعيشه.
لم أفاجأ من هذه النتيجة، فمنطقى جداً لأناس ينتمون إلى بلادهم ويحافظون على هويتهم أن يعملوا من أجل نهوض بلادهم، ولم أندهش من اتهامه للقطاع الخاص فى مصر بأنه ضعيف، لأن الواقع يؤكد أن القائمين عليه يعملون لمصالحهم فقط.
فى مصر، وصل الحال إلى حد عدم الانتماء النهائى لهذا البلد، والأخطر أنها أصبحت حالة شبه عامة بين الشباب، والدليل على ذلك الهجرة غير الشرعية لهم، والذى يجمع كل منهم ما بين 20 إلى 60 ألف جنيه ليرمى نفسه فى أحضان الموت، لمجرد الخروج من الواقع الذى يعيش فيه، بالرغم من أن هذا المبلغ يكفى لبدء مشروع لكل واحد منهم، يساعده على المعيشة ويساعد البلد أيضاً، ولكن ثقافة "الصغير ملوش مكان وسط الكبار"، جعله يتمنى الهجرة عن البلد حتى ولو كلفه ذلك حياته، وبالنسبة لرجال الأعمال المصريين، هل يأتى اليوم الذى يمكن أن يخلد التاريخ ذكرى أى منكم؟!! أتمنى أن أرى الإجابة على أرض الواقع.
وأخيراً بالنسبة للقيادة السياسية، رسائل الماجستير والدكتوراه فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بها الكثير من الحلول لأزماتنا، ولدينا أيضاً خبرات وعقليات محترمة، يمكن أن تضع نموذجاً لنهوض هذا البلد، يتوافق مع طبيعة المجتمع، إننا يا سادة نحتاج إلى تغيير ذاتنا، والانتماء لهذا البلد.. بالعمل وليس .. بالأغانى!!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما هى أهم أسباب تقدم اليابان وتحولها من دولة نامية إلى دولة متقدمة؟، كان هذا السؤال الرئيسى للمحاضرة التى شاركت فيها بالحضور لبروفسيور يابانى فى جامعة طوكيو اسمه كينيتشى أونو، فى أحد مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمصر، كان يستعرض فيها التنمية الاقتصادية فى اليابان.
وبعد انتهاء المحاضرة، قفز إلى ذهنى صورة نمطية، دائماً ما أشاهدها عندما يتم الحديث عن الوضع الاقتصادى فى البلد، حيث غالباً ما تثار المقارنات بين مصر واليابان، مصر والنمور الأسيوية، مصر وأمريكا، مصر وأوروبا، سواء بين المصريين فى تجمعاتهم العادية أو فى نقاشات المفكرين والمتخصصين، والتى غالباً ما تقتصر على استعراض الماضى البعيد وحضارة 7000 آلاف سنة، الذى كانت فيه هذا البلد متقدمة عن هذه الدول، وتنتهى بـ"ندب" الحظ والظروف، دون التفكير فى كيفية الاستفادة من هذه التجارب.
لن أستعرض ما قاله البروفسيور أونو عن التجربة اليابانية ونهضة بلاده، ولكنى سأركز على الأسباب الحقيقة وراء هذا التقدم الاقتصادى، والذى جسد بالفعل أزمة مصر اقتصادياً وانعكاساتها السياسية والاجتماعية، حيث بدأ برنامجنا للتنمية الاقتصادية مع النمور الأسيوية (ماليزيا وكوريا الجنوبية والفلبين وإندونيسيا وفيتنام وتايوان) بجانب اليابان فى عام 1960، إلا أن هذه الدول، التى مرت بأزمات لا تقل فى حدتها عن أزمات مصر كالنكسة وحرب أكتوبر، تخطتنا اقتصادياً بمراحل، جعلت منها قوة اقتصادية كبرى ناشئة، بينما ظلت بلادنا دولة نامية.
إذن كيف نهضت اليابان ولماذا لم تنهض مصر؟ الإجابة هنا تكمن فى عاملين أساسيين: الأول، الحفاظ على الهوية، أما العامل الثانى، يتمثل فى القطاع الخاص..
فبالنسبة للهوية، فقد حافظ اليابانيون على هويتهم "التى تحدد الانتماء، هل انتماؤك للبلد أو لتيارات سياسية أو دينية". وتشير تجربة اليابان أنهم استطاعوا إدارة الصراع بين عاداتهم وتقاليدهم الداخلية القديمة مع القيم العادات الخارجية، لذلك تغير المجتمع اليابانى تماماً ولكنه محافظ على أسس هويته وانتمائه، بعاداته وتقاليده، بعد أن أخذ ما يتناسب معه من القيم الخارجية، ليظهر نموذج يابانى محلى يتوافق مع خصوصيتهم.
أما نحن فى مصر، فلدينا ثقافة القبول المطلق أو الرفض المطلق للقيم والأفكار الخارجية، ولا عجب فى أن نرى جدلاً وسجالاً فكرياً بين اليسار واليمين، لك يدافع عن مبادئه دون النظر إلى الواقع المصرى وخصوصيته، كيف؟ ظهر هذا بوضوح فى العصر الحديث تحديداً، فعندما تبنت القيادة السياسية المبادئ الاشتراكية، تم قبولها بشكل مطلق، بأركانها وأسسها، والتى كان من أهمها: ملكية الدولة للأدوات الاقتصادية (الصناعية والزراعية والخدمية)، وعندما تم التغيير وسميت بالاشتراكية العربية، كان السبب (وفق ما قاله لى أحد أعضاء الاتحاد الاشتراكى أيام الرئيس جمال عبد الناصر)، أن الاشتراكية الشرقية تساوى بين الرجل والمرأة فى التوريث، بينما الشريعة الإسلامية تقول غير ذلك!!
وعندما بدأت مصر فى التحول نحو الليبرالية والرأسمالية الاقتصادية، تم الاعتماد على النموذج الغربى تماماً، وبدأت تعطى امتيازات مطلقة لرجال الأعمال والقطاع الخاص، ضمن برنامج الخصخصة، وانتهت الحالة إلى سطوة رجال المال على كل شىء بما فيها القرارات السياسية، ناهيك عن مليارات مصر التى تم تهريبها للخارج جراء الثقة المطلقة لرجال الأعمال، الذين تعاملنا معهم على إنهم ملائكة.
والحق يقال هنا، إن برنامج الخصخصة المصرى، من أفضل برامج التحول الاقتصادى نحو اقتصاد السوق، لكنه لم يطبق بشكل سليم، وشابه العديد من التجاوزات التى بدأت آثارها تظهر مع نقص السيولة فى مصر، والدليل على ذلك أن روسيا ودول شرق أوروبا أرسلت فى منتصف التسعينيات وفوداً رسمية للإطلاع على برنامج الخصخصة لدينا، ونجحت دول منها فى تطبيقه بشكل جيد، وكان بمثابة تأشيرة دخول بعض منهم إلى دول الاتحاد الأوروبى!!
تقود هذه النتيجة، إلى العامل الثانى لنهوض اليابان، وهو القطاع الخاص، فقد أشار البروفسيور أونو إلى أن رجال الأعمال اليابانيين وشركاتهم الخاصة كان لهم دور مهم فى نهوض بلاده، وقد انبهرت خلال المحاضرة باستعراض لأسمائهم وشخصياتهم، منذ منتصف القرن التاسع عشر، منهم مؤسس مجموعة ميتسوبيشى وهوندا للسيارات، كان يتحدث عنهم بكل فخر لأنهم ساهموا فى دعم قوة بلاده، وعندما تطرق بالحديث إلى مصر قال إن القطاع الخاص فى مصر "ضعيف" وحمله سبب التراجع والتردى الاقتصادى الذى نعيشه.
لم أفاجأ من هذه النتيجة، فمنطقى جداً لأناس ينتمون إلى بلادهم ويحافظون على هويتهم أن يعملوا من أجل نهوض بلادهم، ولم أندهش من اتهامه للقطاع الخاص فى مصر بأنه ضعيف، لأن الواقع يؤكد أن القائمين عليه يعملون لمصالحهم فقط.
فى مصر، وصل الحال إلى حد عدم الانتماء النهائى لهذا البلد، والأخطر أنها أصبحت حالة شبه عامة بين الشباب، والدليل على ذلك الهجرة غير الشرعية لهم، والذى يجمع كل منهم ما بين 20 إلى 60 ألف جنيه ليرمى نفسه فى أحضان الموت، لمجرد الخروج من الواقع الذى يعيش فيه، بالرغم من أن هذا المبلغ يكفى لبدء مشروع لكل واحد منهم، يساعده على المعيشة ويساعد البلد أيضاً، ولكن ثقافة "الصغير ملوش مكان وسط الكبار"، جعله يتمنى الهجرة عن البلد حتى ولو كلفه ذلك حياته، وبالنسبة لرجال الأعمال المصريين، هل يأتى اليوم الذى يمكن أن يخلد التاريخ ذكرى أى منكم؟!! أتمنى أن أرى الإجابة على أرض الواقع.
وأخيراً بالنسبة للقيادة السياسية، رسائل الماجستير والدكتوراه فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بها الكثير من الحلول لأزماتنا، ولدينا أيضاً خبرات وعقليات محترمة، يمكن أن تضع نموذجاً لنهوض هذا البلد، يتوافق مع طبيعة المجتمع، إننا يا سادة نحتاج إلى تغيير ذاتنا، والانتماء لهذا البلد.. بالعمل وليس .. بالأغانى!!
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة