القاضى على المنصة له مهابته التى تثير الخوف، بدرجة أقل من رجال الشرطة، لكن ماذا يحدث إذا انعكس السؤال؟ ما الذى يخيف القاضى بصفته، داخل القاعة يخاف أن يظلم متهما أو متقاضيا، ويخشى تلوث السمعة، لكنه خارج قاعة المحكمة بشر يخاف على مستقبله، وأبنائه، يخشى المرض، الموت، الحوادث.
القضاة الذين سألناهم اتفقوا على أن تلوث السمعة، دعاء المظلوم، تأنيب الضمير هى ما يخيف القاضى فى المحكمة، أغلبهم اتفق على أنهم لا يخافون إلا الله، لكن خارج المحاكم وقاعاتها، يعودون بشرا، بعضهم يخاف الظلام، أو الوحدة، الأشباح أو الأب، وأحيانا السمك.
نعم السمك، وهو ما أشار إليه المستشار «محمد حامد الجمل» رئيس مجلس الدولة الأسبق الذى قال إنه يخاف ثلاثة أشياء، ارتبطت بنشأته بمحافظة بورسعيد، «سيارات المطافئ، والغرق، والسمك»، ويشرح: فى الماضى كانت منازل بورسعيد صغيرة من الخشب، والحرائق شبه يومية، وكان صوت السارينة المميزة لوابور الحريق «المطافئ»، يعنى وجود كارثة عند أسرة يحترق منزلها، أما الغرق فلأننى من مدينة ساحلية، والبحر والسباحة شىء أساسى، والغرق متوقع ومتكرر، وسيطر على الخوف من الغرق لدرجة حرمتنى من الاستمتاع بالبحر.
هاجس بحرى آخر سيطر على المستشار الجمل حرمه من الاستمتاع بتناول المأكولات البحرية وخاصة السمك، ويقول: أهل بورسعيد يحفظون السمك فيما عرف بـ«الساربندينة» وهى تشبه الثلاجات، وكانت كميات كبيرة تفسد، ونسميها بالبورسعيدى «مشمومة»، ويوما ما رأيت أكثر من 20 نعشا لأفراد أكلوا سمكا فاسدا، أصابنى المشهد برعب من أكل السمك.
وعن الخوف لدى القاضى يقول الجمل: أكثر ما يؤرقه هو اتهامه بالظلم، أو الخطأ فى تطبيق وتفسير القانون.
المستشار «لبيب حليم» نائب رئيس مجلس الدولة أكد: المهنة تفرض علينا كقضاة عدم الخوف، أو التأثر، وإن كان المجهول، والتفكير فى الغد يشغلنى، وكما يقال «الإنسان عدو ما يجهل».. «أخاف من الظلام، والكلاب، وليس من النفوذ والسلطة. هذا ما يعترف به المستشار رفعت السيد رئيس نادى قضاة أسيوط، ويضيف ورغم الزمن والسن فإن خوفى من الظلام والكلاب، متأصل لدى، ومازلت أخشى المرور أمام الكلاب، وعدا ذلك لا أخاف شيئا، القاضى، والد، وزوج، يحلم ويتمنى، وفور دخول قاعة المحكمة ينسى همومه بالخارج.
«لم أخف من مخلوق، أو من أى شىء سوى من والدى المزارع البسيط» اعتراف من المستشار «فؤاد راشد» رئيس محكمة باستئناف طنطا ويقول: كان والدى دائم التقريع واللوم لى، بسبب أو بدون، لدرجة أننى فى الثانوية العامة، تركت منزلنا هربا من قسوة والدى فى الدقهلية وأقمت فى منزل جدى العتيق المحاط بحكايات الأشباح، لأنه كان مهجورا منذ القرن التاسع عشر.
«الأشباح والعفاريت وقصص العجائز، خوف لم يفارق المستشار» أحمد الشاذلى بمجلس الدولة، ويبتسم موضحا أنه ولد بقرية تابعة لمركز بسيون بالغربية، كانت ككل القرى بدائية، وتسلية الأطفال الجلوس تحت الشجر والاستماع إلى الحكاوى وقصص الشاطر حسن والجنيات التى تثير الخوف ليلا وفى ضوء القمر، وفى إحدى المرات اضطررت لمرافقة أحد مقرئى القرآن كفيف، ممن تردد أن لهم علاقة بالجن والأشباح، رافقته لأوصله لمنزله ومررنا من وسط الزراعات ورغم قصر المسافة كان الوقت يمر بطيئا، ويدى فى يديه، طاردتنى الهواجس المخيفة، ولم تتركنى إلا بعد أن تركت يده، وعدت لمنزلنا.الوحدة وفراق الأحبة هاجسى، من الصغر هما هاجس المستشارة «نهى الزينى» التى تؤكد: «لا أخشى أحدا، وأستطيع مواجهة أصعب المواقف، لكنى لا أستطيع البقاء وحيدة.. الوحدة تقضى على، وتجعل الحياة خاوية، وفارغة».. «محمود عبد القادر» مستشار مساعد بالمحكمة الإدارية بمجلس الدولة بأسيوط، قال: أخاف من دعوة مظلوم.
لمعلوماتك..
◄ 5 مؤسسات مسئولة عن شعور الخوف لدى المصريين حسب علماء الاجتماع هى: الأسرة والمؤسسة التعليمية والدولة والمؤسسة الدينية والإعلام.