حال الدنيا

الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: التغيـير الــذى نريـــده

الجمعة، 21 نوفمبر 2008 02:38 ص
الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: التغيـير الــذى نريـــده الكاتب الكبير محمود عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نموذج أول: تقارير صحفية متواترة ،تكشف تورط شركات محلية فى استيراد قمح فاسد من أوكرانيا وغيرها، تحت مسمى «أعلاف حيوانية»، بينما تصرفه الحكومة للمخابز لإنتاج رغيف العيش، وبدلا من الكشف عن المستوردين ومعاقبتهم، عاقبت الحكومة أصحاب المخابز بالغرامات الباهظة، والجهاز المركزى للمحاسبات، يشكل لجنة لحصر كميات القمح المستوردة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وحصر الجهات المستوردة، ومراجعة مدى سلامة إجراءات السماح بذلك القمح الفاسد.

نموذج ثان: سيل متزايد من الإعلانات التليفزيونية، وملاحق الصحف، للترويج لعشرات من ماركات السيارات المستوردة، إعلانات تتكلف عشرات الملايين من الجنيهات، من بينها ملايين تدفع لنجوم سينما، تحتكرهم الشركات المستوردة للسيارات الفارهة ،شرهة الاستهلاك للبنزين، الذى ترفع الحكومة سعره مرة بعد مرة، للحصول على موارد إضافية لسد العجز المتزايد فى ميزانيتها، فيما بين هذا وذاك، لم أجد وسيلة إعلام مصرية واحدة، تتابع مأساة خنق ومحاصرة وتخسير الشركة المصرية الأقدم لإنتاج السيارات ،وتسريح الآلاف من مهندسيها وعمالها، استعدادا لتصفيتها أو بيعها كالعادة بسعر التراب. نموذج ثالث: فروع لبنوك أجنبية، بل حتى بعض البنوك المصرية، تلح على المودعين وصغار الموظفين، لإعطائهم بطاقات ائتمان مجانية فورية (فيزا كارد وماستر كارد وغيرهما) تشجيعا لهم على الشراء، والشراء، والشراء، بالاستدانة المتراكمة، وتقريبا بغير ضمانات للسداد.

تلك مجرد نماذج للمنزلق، الذى ننحدر إليه طوال سنوات، دون أن يتوقف أحد عند حقيقة أن كل هذا يؤدى مباشرة إلى زيادة الديون الأجنبية المستحقة على مصر سنة بعد سنة، الآن تجاوزت 34 مليار دولار بزيادة أربعة مليارات فى سنة واحدة، هذه الديون سيتحمل عبأها ووزرها جيل قادم، لا ذنب له فى القصة من أولها.

استمر هذا يجرى فى ظل دعوة لتحويل مصر إلى اقتصاد السوق، والاندماج فى الاقتصاد العالمى، بشهادات حسن السير والسلوك من صندوق النقد الدولى، والمؤسسات الأمريكية والغربية، التى يعبر عن مصالحها، وحتى بعد زلزال الأزمة المالية الأخيرة التى صنعتها أمريكا، وصدرتها إلى معظم دول العالم، لم يتوقف عندنا أحد للمراجعة أو استخلاص الدروس الصحيحة، الأزمة أساسها أن أمريكا، وهى الدولة العظمى، استسلمت طوال سنوات للعيش بما يتجاوز قدرتها.. وهى ضخمة.. وتشجيع مواطنيها على السلف والاقتراض وشراء المنازل بالرهن العقارى، والإنفاق المتزايد باستخدام شتى أنواع بطاقات الائتمان.

وحينما انفجرت الأزمة فى منتصف سبتمبر الماضى، بإعلان إفلاس رابع أكبر بنوك أمريكا، تلاحقت حالات الإفلاس فى البنوك والشركات، واضطرت أمريكا إلى ابتلاع الدواء المر، وهو استخدام 700 مليار دولار من أموال دافعى الضرائب ،لإنقاذ مؤسسات مالية منهارة، ومنع إفلاس المزيد من البنوك، حتى كتابة هذه السطور، لحقت حالة الإفلاس بتسعة عشر بنكا أمريكيا، ملايين المواطنين الذين أصابتهم الأزمة، اكتشفوا أنهم وحدهم يدفعون ثمنها الموجع من العجز عن السداد، والبطالة والطرد من منازلهم انتظارا للفرج على ناصية الطريق.

قارئ أمريكى بعث إلى جريدته برسالة غاضبة مريرة، يقول فيها: «برافو يا أعضاء الكونجرس! أنتم الآن أثبتم أن لدينا اشتراكية للأثرياء، ورأسمالية للباقين من المواطنين العاديين»، وخلال الحملة الانتخابية الأمريكية الأخيرة، طرح باراك أوباما، مرشح الحزب الديمقراطى المعارض، برنامجا للإنقاذ يقوم ـ ضمن بنود أخرى ـ على زيادة الضرائب على الأثرياء، وتخفيضها أو إلغائها على العائلات التى يقل دخلها السنوى عن ربع مليون دولار، وهم خمسة وتسعون بالمائة من الأمريكيين، المرشح الجمهورى المنافس جون ماكين ،اتهم أوباما علنا بأن ميوله «اشتراكية» وهى تهمة لو تعلمون فظيعة فى دولة تعتبر نفسها قلعة ومنارة الرأسمالية فى العالم، مع ذلك جاءت النتيجة حاسمة وقاطعة لصالح باراك أوباما، وحصوله على 66 بالمائة من أصوات الناخبين، وهى أعلى نسبة يفوز بها مرشح رئاسى منذ عقود طويلة، لم ينخدع الناخبون بتهمة «الاشتراكية» وهى غير صحيحة أصلا ، وانحازوا إلى شعار «التغيير» الذى اختاره أوباما عنوانا لبرنامجه الانتخابى.

لا أريد الاسترسال فى الجانب الأمريكى من القصة، فقد كتبت عنه من قبل.، وإنما أستخدمه فقط للانتقال إلى مأزقنا الخاص بنا، نحن هنا فى مصر، نحن أيضا فى حاجة ماسة إلى التغيير، والتغيير الجاد، إذا كنا نستوعب حقا ما يجرى فى العالم وعندنا، فى العالم انقلاب كامل على منطق ترك الحبل على الغارب لاقتصاد السوق، وإعطاء الأولوية للاستهلاك بما يتجاوز الموارد، وتقليص دور الدولة فى الحياة الاقتصادية، إلى آخر الموال الذى ظلوا يلحون علينا به من خلال النصائح الأمريكية المباشرة، أو من صندوق النقد الدولى.

وكما نشرت مادلين بونتينج فى جريدة «الجارديان» البريطانية، فإنه: «فى شهر سبتمبر الماضى، عانت الولايات المتحدة وأروبا من حالة إذلال، بسبب الفشل الكارثى لقواعدهم الخاصة، التى كانوا يلحون عليها وأصبحوا الآن مضطرين إلى تمزيقها، لقد انكشفت المعايير المزدوجة للمصالح الغربية تماما، فخطط الإنقاذ المالى الحكومى التى وضعوها، هى بالضبط ما كانوا بشكل متكرر، وبقسوة، يرفضون السماح لدول أخرى أن تفعله فى أزمات مشابهة».
نحن هنا نعرف أنهم هناك سيدبرون أمورهم عاجلا أو آجلا، بالسياسة أو بالبلطجة، وبشفط ما يستطيعونه من الفوائض المالية لدول البترول والصناديق السيادية الأخرى، تلك قدرة لانملك مثلها هنا فى مصر أو فى كل الدول النامية، نحن نملك فقط عقولنا ومواردنا المحدودة لكى نحسن استخدامها، من عقولنا نريد تغييرا جذريا ينقلنا من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج، وبمواردنا المحدودة نريد الانتقال من البطالة إلى العمل ومن الفقر إلى الغنى.

لكن حينما تصبح مصر أكبر دولة فى العالم مستوردة للقمح مثلا، فإن هذا يعنى أننا منذ سنوات نمارس سياسة زراعية مدمرة، لم نحترم فيها آراء الخبراء ولا دروس الماضى القريب، وحينما يعلن وزير الزراعة قبل أيام ، أنه يدعو المزارعين إلى التوسع فى زراعة القمح ،وفى نفس الوقت يؤجل إعلان أسعار توريد القمح من الفلاحين حتى مايو القادم، فإن هذا يحول وزارة الزراعة إلى مجرد «عابر سبيل» وليس صاحبة رؤية وبرنامج.

وحينما نخفض الرسوم الجمركية على السيارات الأجنبية المستوردة، دون تحسب للعواقب، أو مراجعة أوضاع الصناعة الوطنية، تكون النتيجة هى أن يقفز عدد السيارات المستوردة إلى مائتى ألف سيارة، كما حدث هذه السنة فعلا، سيارات يتم ضخها فى شوارع مختنقة، وبالاستدانة الصريحة لمئات الملايين من الدولارات، دفعناها ثمنا لتلك السيارات، وأصبحت البنوك هنا ـ وبالذات الأجنبية منها ـ تتنافس لإغراء المستهلك المصرى بالاقتراض منها، حتى مليون جنيه فى كل حالة، لشراء سيارة مستوردة، هذا المشترى المحتمل لا يطلب منه البنك سوى أن يكون عمره فوق 22 سنة وألا يقل دخله الشهرى عن 1600 جنيه، هذا هو بعض ما حذرنا منه سابقا، وقت «هوجة» الإلحاح على بيع البنوك المصرية للأجانب.

من ناحية، هذا استخدام مدمر لمدخرات المصريين فى تلك البنوك، ومن ناحية أخرى تسويق منتجات دول أجنبية تزيد من فرص العمل لشبابها على حساب بطالة متزايدة هنا لشبابنا، أكثر من ذلك نجد فى التعديلات الأخيرة لقانون المرور، بدعة مستجدة خلاصتها، إجبار 40 ألفا من أصحاب سيارات الأجرة على التخلص من سياراتهم خلال سنتين، وشراء سيارات جديدة ـ هى بالحتم مستوردة ـ حتى تستمر تراخيصهم، إجراء شاذ لم يسعد به سوى وكلاء استيراد السيارات الأجنبية فى مصر.

فى ثقافة وسياسات مضادة، كان يمكن تكليف شركة النصر لصناعة السيارات مثلا، وهى شركة قطاع عام موجودة منذ سنة 1960، بإنتاج سيارة محددة بترخيص أجنبى يصبح هو بالتدريج النموذج الموحد لسيارات الأجرة، وبغير سلطة القمع، إجراء كان كفيلا بإعادة الحياة لشركة تملك تسعة مصانع، ومايزال بعض إنتاجها مشهودا فى شوارعنا ومدننا، منه مثلا السيارة «نصر 128» بترخيص من شركة فيات الإيطالية، وآخر سعر بيعت به إلى الجمهور كان 5500 جنيه إلى أن بدأ إدخال الشركة فى مرحلة الخنق والتخسير جبرا بفعل فاعل.

وهكذا فى ظل سيادة ثقافة وسياسة الاستهلاك، اختفت من مصر صناعات ناجحة ومستقرة، كان يمكن لها أن تستمر وتتطور وتزدهر، لو لم يخنقها أصحاب الغرض لمصالح أجنبية، من الثلاجة إلى البوتاجاز إلى منتجات البلاستيك، إلى كراريس المدارس، واللمبات الكهربائية وأجهزة الراديو والتليفزيون، وسيارات الركوب واللورى والأوتوبيس، ومعدات التليفون والأغذية المعلبة، والمراجل البخارية والملابس الجاهزة ومنسوجات المحلة الكبرى وكفر الدوار إلى الزيت والسكر.. إلى. . إلى.. إلى عشرات وعشرات من السلع التى كنا منتجين لها بأسعار مناسبة للمصريين وأصبحنا لها مستوردين.

سلع عديدة كنا نصدرها إلى الخارج لقدرتها التنافسية سعرا وجودة.. من معلبات شركة «قها»، إلى أوتوبيسات ولوارى النصر للسيارات، إلى بوتاجاز المصانع الحربية ومنسوجات المحلة الكبرى، وأقمشة كفر الدوار، وأثاثات دمياط وسكر نجع حمادى وأسمدة «كيما» بأسوان و..و.. و..

اختفى كل هذا بالتتابع، وأغلقنا مصانع، وشردنا عمالا، واستوردنا بدائل من الخارج، بل حتى جمع القمامة فى مدننا استوردنا له شركات أجنبية، تحولت بعد فترة إلى بلطجى علينا وعلى الحكومة.، فلا قمامة تجمع ،ولا حكومة تفسخ معها التعاقد.، وإنما فقط الشركات تتجبر على الحكومة، والحكومة تتجبر علينا، فتفرض علينا قهرا رسوما للنظافة ضمن فواتير الكهرباء، لحساب تلك الشركات الأجنبية، وهو استخدام شاذ لسلطة الحكومة، لم تفعله أعتى دولة رأسمالية لحساب شركات القطاع الخاص عندها.

فى ظل ثقافة وسياسات الاستهلاك، أصبحت البنوك تطارد كل الناس، حتى موظفى الحكومة، لإعطائهم بطاقات ائتمان مجانا، فتدفعهم إلى الشراء والشراء على طريقة «انسف حمامك القديم»، وفى لحظة الحقيقة يجىء الحجز والمصادرة وخراب البيوت، وفى ظل ثقافة وسياسات الاستهلاك، أصبحت إعلانات التليفزيون تطاردنا وتفرض سطوتها المالية حتى على تليفزيون الدولة، إعلانات لا تلح علينا فقط بالشراء والشراء، ولمنتجات مستوردة تحديدا، وإنما تمزق مسلسلات الدراما إربا فيصبح المسلسل الدرامى أيضا فى خدمة الإعلانات، وليست الإعلانات فى خدمة التليفزيون، وفى الإذاعة أصبحت محطاتنا، بما فيها البرنامج العام، تطاردنا بإعلانات عن خطوط ساخنة، تلح علينا باستخدامها للحصول على ما نشاء من فتاوى دينية ،ابتغاء مرضاة الله.. بينما شركات المحمول تجمع الملايين فوق الملايين من استغلال الدين لأغراض تجارية صريحة.

وبمناسبة التليفونات المحمولة، كان يمكن لنا البدء بإقامة صناعة محلية لها هنا، بتكنولوجيا نستخدمها جزئيا بترخيص مدفوع الثمن، وحتى لو بلغت نسبة التصنيع المحلى خمسين بالمائة فقط، فإن هذا يظل أفضل لنا من استيراد أجهزة المحمول بالكامل، دول صغيرة حولنا فعلت ذلك وأكثر.، فخلقت فرص عمل لشبابها، ووفرت من مواردها وأضافت صناعة جديدة بدل ما نفعله نحن من إغلاق صناعات قائمة.

حقيقة بسيطة فقط، أرجو أن نتذكرها، حقيقة أن كل الدول بدأت فقيرة، بعضها فقط أصبح غنيا تاركا الفقر للآخرين، من أصبح غنيا لم يصبح كذلك إلا بالالتزام أولا بثقافة وسياسات الإنتاج، والإنتاج، والإنتاج، ومن الإنتاج يبدأ الاستهلاك، لكننا هنا استسلمنا لمصالح وبرامج خارجية تفرض علينا الاستهلاك، والاستهلاك، الذى أصبح فى التطبيق يعنى الاستيراد، والاستيراد.. فأصبحنا بدورنا ننحدر من فقر إلى فقر، ومن ديون إلى ديون، وشبابنا يعانى من بطالة فوق بطالة.

الآن هم فى دول الشمال ينقلبون على أنفسهم، ويستردون للدولة دورا قالوا سابقا إنه الحرام ذات نفسه، الآن هم يتغيرون، فهل نتغير نحن؟ وإذا لم يدفعنا هذا الزلزال المالى العالمى إلى مراجعة سياساتنا وتغيير ثقافتنا من الاستهلاك الطارئ إلى الإنتاج المتزايد.. فماذا ننتظر؟ وإذا لم نتغير الآن.. فمتى؟





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة