ناهد إمام

شرف المجتمع .. بلا دماء!

الأربعاء، 29 أكتوبر 2008 10:43 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" احمدى ربنا إنى لسّه مكمّل معاك وساتر عليك.. أنا لما اتجوزتك مكنتيش بكر أصلاً.. آه أنا مشفتش دم"!.. هذه العبارة الصادمة قالها أحد الأزواج لزوجته على إثر مشادة كلامية بينهما بعد عشرة زوجية امتدت لـ 16 عاماً وأثمرت 4 أبناء!

هذا الزوج الذى استكثر على نفسه حب زوجته له وظل منذ ليلة زفافه يكتم بين أضلعه هذه الفرية ويجدها سبباً وجيهاً لديه لتعلق زوجته به وتمسكها باتمام زيجتها منه, فسوّل له عقله وبررت له عيناه التى لم تر الدم "أنها فاقدة للعذرية". هذه السيدة المكلومة والتى التقيت بها مؤخراً فى إحدى المناسبات اكتشفت أخيراً سر سوء معاملته لها, وإشعارها بـ " المنِّ" أنه تزوجها, وتماديه فى إساءة العشرة بعد أن تلفظ بهذا الاتهام.

هذا الرجل لم يحاكمه أحد, ولم يراجعه ذو سلطان, ولم يعتذر لامرأته "أم العيال"، بل تمادى فى إهاناته التى لم تجد السيدة أمامها رد فعل مناسب سوى أن تلملم ما تبقى لها من كرامة وتجمع ملابسها وأطفالها وتخلع هذا الرجل وتترك له الجمل بما حمل, معتبرة ذلك شرفاً إضافياً لشرفها!

لم تكن بالطبع القصة أعلاه هى دافع أمل فوزى لإنتاج فيلمها "ملف خاص" والذى تناولت فيه أبعاداً عميقة ومتشعبة لعذرية البنت ومفهوم الشرف, ولكنها عرفت ومنذ زمن قصصاً أخرى ومن الواقع أيضاً, ورأت بعقلها وعينيها مجتمعاً يفتش فى المرأة عن الدم, ويقصر مفهوم "الشرف" الواسع فى غشاء بكارتها وفقط!

الكتابة هنا ليست عن أمل فوزى الصديقة والزميلة أو حتى الصحفية والكاتبة ومخرجة الأفلام التسجيلية, فظنى أن دافع "أمل" الذى سبق مهنيتها لإنتاج فيلمها الذى عرض مؤخراً بنقابة الصحفيين ودار الأوبرا وعدد من المراكز الثقافية.. دافعها الأول كان "إنسانيتها" التى ربما تسبق أيضاً كونها أنثى تعيش فى هذا المجتمع.. وهذا الدافع نفسه هو سبب الكتابة عن "ملف خاص" هنا.

فـ "ملف خاص" يتحدث عن الإنسان بالتركيز على المرأة, أراد أن يوصل رسالة تقول إن للولد "شرفاً" وللمجتمع "شرفاً", وللإنسان "شرفاً", وإنه لا أحد يحافظ على هذا الشرف ولا يكترث له أو يبحث عنه ويؤصله, لأن المفهوم الوحيد المعتبر للشرف هو غشاء بكارة الفتاة ودماؤها.

حميمية شديدة ربما أرادت أن توصلها أمل من خلال تصوير جزء من الفيلم فى بيتها الأنيق, وهى تنتقى الكتب, وهى تشاهد لقطات على شاشة التليفزيون تعرض عملية ولادة طفل, وهى تبحث على الإنترنت عن مادة بحثية للفيلم, تعد كوباً من النسكافيه, تمسح زجاج النافذة, تتصفح الجرائد والمجلات, تمسك بالسكين فى مطبخها وتقطع البصل والكوسة – لا أدرى هل جاء انتقاؤها لهذه الخضراوات بالذات عشوائياً أم أن له دلالة رمزية أيضاً - المهم.. أن ما وصلنى كواحدة من الجمهور رسالة تقول إنه "هذه هى المرأة", أدوار عدة فى الحياة وليست فقط "غشاء بكارة", وصلنى أن "أمل" ليست كاتبة تُنَظِّر فى برج عاجى أيضاً، وإنما امرأة تفعل كل شئ وتؤدى كل الأدوار.. ووسط هذا وذاك كله تتنقل بالكاميرا والميكروفون والقلم وتحدث الناس وتناقش الأكاديميين والباحثين بكفاءة واقتدار.

لقاءات جماهيرية منوعة مع شرائح عمرية وطبقية مختلفة من المجتمع المصرى عرضها الفيلم وقامت بها أمل فوزى شخصياً.. لقاءات حركت المواجع وأخرى حرّضت على الضحك. لا أدرى هل كان الموقف يستحق أن أبكى أم أضحك عندما سألت أمل أحد الشباب أمام مبنى جامعة القاهرة: هل تعتقد أن للولد شرفاً؟ فرد عليها بكل ثقة: "لأ طبعاً الولد معندهوش شرف"! ألا ترون معى خطورة أن تتربى أجيال من الصبيان يصبحون شباباً ثم رجالاً "معندهمش شرف"؟!!

أما إجابة الشاب التالى عندما سألته: "لو حبيت بنت وسلمت لك نفسها بناء على رغبتك باسم الحب اللى بينكم ده ح تتجوزها بعد كده؟" فرد عليها وبكل ثقة أيضاً: "لأ طبعاً".. لم تكن إجابته صادمة لا لشئ سوى أننا سمعناها من قبل كثيراً وسنظل نسمعها, لأنها تعبير صريح من شخص يمثل ازدواجية مجتمع بأكمله.

"لأ.. لازم تموت طبعاً.. لازم تتقتل"، كانت إجابة الرجال الذين بدت أشكالهم وكأنهم آباء عندما سألتهم أمل فى استطلاعها الجماهيرى عن رد فعل أحدهم إذا ما تعرضت ابنته لفقد عذريتها.

فى إمبابة, وأسيوط, والمنيا تجولت أمل بعدستها فى عقول الناس وعرضت آراء قاسية, مؤلمة تدور كلها حول مفهوم الناس للشرف عموماً, ولعذرية البنت خاصة.. وكلها أظهرت بجلاء أنه هناك مشكلة لدى الرجل ولدى المجتمع ولدى قطاع من النساء ليس بالهين يمتلكن عقليات أشد تخلفاً وأقسى على بنات جنسهن من الرجل والمجتمع.. مشكلة كبيرة حول المفاهيم العامة ومنها مفهوم "الشرف".

أما أكثر اللقطات تأثيراً بالفيلم – من وجهة نظرى- فتمثلت فى اللقاء الذى أجرته أمل فوزى مع الدكتورة هبه قطب, تحدثت فيه عن أنواع غشاء البكارة وأكذوبة الدماء الحمراء التى ينبغى أن تسيل عند فض الزوج لغشاء زوجته و ما يحدث من جراء هذا الفهم من مشكلات وظنون وشكوك, وخصت بالحديث أحد أنواع أغشية البكارة لدى الفتيات والتى لا تسمح بمرور دماء الدورة الشهرية لدى البلوغ، وبالتالى تتجمع الدماء خلف الغشاء وتؤدى إلى تضخم البطن وحدوث آلام شديدة, مما يدفع البعض للشك فى الفتاة وفى عذريتها وفى كونها حاملاً!

حكت هبة واقعة حقيقية تعرضت فيها شخصياً بالكشف الطبى على فتاة فى الخامسة عشر من عمرها، أحضرها أبوها من الصعيد إلى مستشفى قصر العينى مصابة بارتفاع فى درجة الحرارة وتضخم فى البطن وآلام مبرحة بالرحم.. أفهمته الحالة وطلبت منه السماح بإجراء عملية جراحية للبنت يمكن من خلال إحداث ثقب بغشائها حتى يتم إخراج كمية الدم المنحبس وإنقاذ الابنة وإلا ستتعرض للوفاة.. إلا أن رد الأب جاء سريعاً حاسماً: "مش مهم.. تموت بشرفها أحسن عندى"!

وبالفعل توفيت البنت بعدها بأيام بمستشفى قصر العينى.. وهنا اغرورقت عينا الدكتورة هبة بالدموع وهى تنهى القصة بوفاة البنت, ومعها الحضور أيضاً. أعرف أن هبة قطب طبيبة وأنثى ولديها بنتان.. حق لها أن تدمع عيناها حزناً على الفتاة وعلى وأد هذا الأب لابنته.. وعلى مجتمع كهذا "يعلق المشانق" لفتياته أخطأن أم لم يخطئن.

أما نجمة الفيلم بحق فقد كانت الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع التى أدت دورها فى تحليل وتفسير فكرة العذرية والشرف لدى المجتمع، رجاله ونساؤه، بحرفية علمية متخصصة متبنية خط الهجوم، معبرة عن ذلك بالقول: "لابد أن ندخل بالمجتمع إلى الغرفة 40 التى يخشى كل الناس دخولها". "ملف خاص" وكما هو متوقع صادرته الدبابير بعقولها.. اتهامات غريبة من دعوة للإباحية والزنا والتهوين من "شأن" غشاء البكارة.. إلخ، ولكن لا غرابة.. فقد تعودنا "تقريباً" على تعامل البعض من المشاهدين أو القراء على الاستسهال والتسطيح والانتقاء وصولاً إلى.. سوء الظن والتفكير وفق نظرية المؤامرة النسوية العنصرية!

وما بين القبول والهجوم لاقى فيلم أمل فوزى ما يلاقيه أى منتج إعلامى أو ثقافى عن "المسكوت عنه".. ولأنه حجر ألقى فى مياه مجتمعية راكدة فقد كان أطرف المواقف الساخنة بطلها "عبد الرحمن بن لطفى" – كما يسمى نفسه– أمين عام حزب العمل بالمنيا.. الذى هبَّ واقفاً فى مداخلة له بعد عرض الفيلم بنقابة الصحفيين قائلاً: "المسلمين بيتعرضوا لهجمة شرسة, بيحاربوا العفة وبيكذِّبوا أن الرسول تزوج عائشة وعندها 9 سنوات, وأنا رغم انتقاداتى للفيلم وأنه بيروج للإباحية إلا أننى لست عدواً للمرأة, بالعكس أنا بحب الستات والدليل إنى متجوز أربعة وعندى 8 بنات جوزتهم كلهم أول ما بلغوا 16 سنة ما عدا اتنين، و ح اتحدى الحكومة لأنها رفعت سن الزواج ومش خايف وح أجوزهم الجواز العرفى الحلال زى اخواتهم"!

انتحيت بهذا الرجل جانباً بعد انتهاء المناقشة فى محاولة يائسة لإفهامه مرامى الفيلم وأطروحته, وتنبيهه إلى أهمية أن يتحدث عن نفسه بشكل شخصى ولا يلصق تفسيراًً خاصاً له بالمرأة بالإسلام, لكنه بدأ يشيح بيديه فى حوار متسلط يريد به فرض وجهة نظره, فلم أجد بداً من الاعتذار وتركته ومشيت أتساءل بينى وبين نفسي: "يا ترى كم عبد الرحمن كهذا لدينا, يملكون عقولاً كهذه ويتحكمون فى مصائر البنات هكذا, وينظرون للمرأة هكذا؟.. وإلى متى هذه العنتريات التى لا تستقوى سوى على المرأة وتعتبر ذلك من الإسلام؟

ولم أفق من استغراقى فى هم التفكير سوى بتذكرى لقطة النهاية فى الفيلم والتى ظهرت فيها أمل تتساءل عن رد فعل الناس تجاه الفيلم وطرحه وتحيرها بشأن ذلك.. وعما إذا كانت الرسالة ستصل بدون تلوين ولا تشويه إلى ذهن وعقل المشاهد كما أرادت. ثم إجابتها عن التساؤل بفتح نافذة بيتها لتظهر فى الخلفية لحظة طلوع الشمس وعلى مرمى البصر امرأة تشرق كالشمس.. ألف ألف دلالة وتعبير بليغ عن أن الرسالة ستفهم وستصل وستتحقق بل وستسطع كالشمس، لأنها هى هى الشمس برغم وجود العميان.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة