اختتم الدكتور حسام بدراوى، القيادى بالحزب الوطنى، حديثه للعدد الأول من اليوم السابع بما يلى: الحزب الوطنى يختار واحدا ولو قررت الهيئة العليا للحزب أن المرشح هو جمال سنقف جميعاً وراءه ولو كان غيره سنقف وراءه أيضاً، وتوازنات القوى هى التى ستحسم الأمر.. إن اختيار الأفضل يتم من بين45، وليس الأفضل فقط، بل الذى يستطيع النجاح أمام مرشحى الأحزاب الأخرى.. وفى المقابل بعض الكتاب القوميين والشيوعيين والناصريين يطرحون السؤال التقليدى، وهو ماذا بعد حكم مبارك؟ وبعضهم يراهن على أنه من المؤكد ستحدث فوضى، والبعض الآخر يتوقع صعود المتطرفين من جماعات الإسلام السياسى نظراً لفراغ الساحة السياسية من أحزاب قوية، والبعض الثالث يراهن على قوة وشرعية المؤسسة العسكرية التى ستكون المانع وحائط الصد لحالات الفوضى المتوقعة، ومن ثم تقوم بدور المحلل الشرعى للسلطة لحين الانتهاء من حالات الفراغ القسرى.
والسبب وراء كل ذلك بالطبع هو عدم وجود نائب للرئيس يتم توريثه مؤسسياً.. والمفارقة كبيرة بين طرح الدكتور البدراوى وبين كتاب القوى الراديكالية السائدة.. فمنذ توقف الحديث عن التوريث الذى ساد مصر قبل فبراير 2005م، وظهور حركة كفاية "وأخواتها" الاجتماعية، أصبح موضوع التوريث محل شك دستورياً وقانونياً، وبالتالى أصبح الحديث عن فراع السلطة أو الفوضى المتوقعة بعد غياب مرحلة الرئيس مبارك ليس ذا موضوع.. فلم تعد الفكرة القائلة بأن المجتمعات الفقيرة لا تحتمل الديمقراطية، حيث إن تنظيم الديمقراطية مكلف ومستغرق للوقت، وأن موارد الدولة الشحيحة من الوقت والمال يحسن إنفاقها فى تلبية حاجات السكان الأكثر إلحاحاً كالصحة والتعليم، والمساعدة على تأمين مقومات البقاء الاقتصادية الأساسية، هى فكرة بائدة وغير عصرية..
كما أن الحديث عن صراعات القوى فى الهيكل السياسى، وعدم وجود فئات اجتماعية واضحة فى المجتمع المصرى، وانهيار الطبقة الوسطى وغير ذلك من المبررات التى يعتنقها أصحاب نظرية فوضى ما بعد مبارك، أصبح أيضاً ليس ذا موضوع.. لماذا؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل.. من الملاحظ أن كل ما سبق سببه أنه يثار منذ فترة ليست بالقصيرة قضية فراغ منصب نائب الرئيس، وتجتهد أقلام ورؤى الباحثين والسياسيين والأكاديميين فى رسم صورة الوضع السياسى فى حالة غياب الرئيس مبارك لأى سبب.. واجتهدت الأقلام وخلصت إلى أن غياب الرئيس مبارك عن الحكم لأى سبب، سوف يؤدى إلى فراغ سياسى، وأن القوى السياسية الموجودة على الساحة الآن غير مؤهلة لملء هذا الفراغ باستثناء القوات المسلحة، وهنا يجب.. بل من الحتمى، مناقشة هذه القضية من منظور تفعيل قيم الديمقراطية، وتداول السلطة من خلال الآليات الدستورية والقانونية.
إن الديمقراطية ترتكز على الحوار الصريح والإقناع والسعى إلى حلول وسط، والتأكيد الديمقراطى على الحوار، لا يفترض فحسب وجود اختلافات فى الآراء والمصالح بشأن معظم مسائل السياسية، ولكن يفترض أيضاً أن لهذه الاختلافات الحق فى أن يعبر عنها، وأن يستمع إليها، وهكذا تفترض الديمقراطية الاختلاف والتعدد داخل المجتمع، وعندما يجد هذا الاختلاف تعبيراً عنه، يكون الأسلوب الديمقراطى لحل الخلافات هو بالأحرى المناقشة والإقناع والحلول الوسط.
إن الديمقراطية كثيراً ما صورت تصويراً كاريكاتيرياً، خاصة من أفول الاستبداد والديكتاتورية، على أنها مجرد "متاجر للكلام"، بيد أن الإمكانات التى تهيئها للنقاش العام ينبغى أن ينظر إليها على أنها ميزة لا عيب، فذلك النقاش هو أفضل وسيلة لضمان القبول للسياسات، ولا يتعارض بالضرورة مع اتخاذ تدابير حازمة.. فالنقاش المفتوح بوصفه الأسلوب المتناسب للتعبير عن الخلافات المجتمعية، ولحلها لا يمكن أن يجرى بدون الحريات المنصوص عليها فى مواثيق الحقوق المدنية والسياسية.. كالحق فى حرية التعبير، ويمكن الاعتماد على الديمقراطية لحماية هذه الحقوق، طالما أنها أساسية لبقائها هى ذاتها، وهذه الحقوق تتيح التنمية الشخصية للأفراد، وتتيح قرارات جماعية أصلح بالنظر إلى اتخاذها فى ضوء مجموعة مختلفة من الحجج والآراء.. فهى بذلك – أى الديمقراطية– تسمح بتجديد قوى المجتمع.
فالنظم الديمقراطية بتوفيرها إمكانات الاستبعاد الروتينى والهادئ للسياسات والسياسيين الذين فشلوا أو لم يعد لهم نفع، بوسعها أن تؤمن التجديد المجتمعى والأجيالى، بدون حدوث ما يصاحب إبعاد كبار الشخصيات فى النظم غير الديمقراطية واضطراب فى الحكم، ولا يتم تفعيل قيم الديمقراطية إلا من خلال تدعيم فلسفة القانون، أى "حكم القانون" أى أن قاعدة الديمقراطية هى المساءلة القانونية والسياسية وذلك عبر الدستور والقانون. فسيادة القانون تجسد المبدأ البسيط القاضى بأن يعمل الجميع فى إطار القانون والدستور على أساس السلطات المخولة لهم والمحددة قانوناً، ومن هنا نأتى للإجابة للقضية التى تشغل بال العديد من القوى السياسية وهى عدم وجود نائب للرئيس.. أو احتمالية الفوضى بعد غياب الرئيس مبارك.
بنظرة بسيطة وسريعة نكتشف أن مصر منذ 23 يوليو 1952 وحتى عام 1981، التزم نظامها السياسى بتعيين نائباً لرئيس الجمهورية طبقاً لحقوقه الدستورية، والتى لا تلزم الرئيس بذلك، بل تمنحه صلاحية وجوبها أو جوازها.. والتزام النظام حتى 1981 باختيار الوجوب فكان نائب الرئيس ملازماً للرئيس.. حتى جاء عام 1981، وحتى الآن لم نر نائباً للرئيس، وثارت مناقشات عديدة فى تلك السنوات.. وكان "صاحب هذا المقال" من أنصار عدم تعيين نائباً لرئيس الجمهورية إذا كنا بالفعل ننشد نظاماً ومجتمعاً ديمقراطياً.. وجاءت اللحظة الفاصلة لتؤكد طموح كل الطامحين للديمقراطية الحقيقية بتعديل المادة 76 الشهيرة، ومن هنا فتجسدت حقيقة هامة فى الوجدان المجتمعى المصرى، وهى أنه فى استطاعته اختيار رئيسه عبر أكثر من مرشح، شرط تمتعه بالحدود القانونية لقواعد الترشيح لهذا المنصب الرفيع، ولذلك كان تعديل هذه المادة صفعة لنظم سياسية أحادية تحت دعوة إعطاء طابع الاستمرار للسلطة السياسية فى أوقات الطوارئ والأزمات، فمن الذى قال أن وجود نائب للرئيس يمنع مثل هذه الطوارئ أو الأزمات. الأمر الآخر هل وجود نائب للرئيس يمنع مثل هذه الظواهر أو الأزمات، وهو الذى كان طوال العقود الثلاثة التى تلت 1952 لم تكن له صلاحيات حقيقية.
أما من يروجون الضرورات- الوهمية- التى تفرض وجود نائب للرئيس هم أول من يقننون مبدأ التوريث رغم شعاراتهم عن الديمقراطية والانتخاب وغيره، فكيف يتسنى لمجتمع ينشد الديمقراطية ونظام سياسى ينشد التعددية السياسية، أن ينمو ويتفاعل مع ما يسمى بالتوريث المؤسساتى، وكيف لديمقراطية تُحمى بالدستور والقانون، أن تخترق هذا القانون وتتعدى على الدستور الذى يحدد آليات انتقال السلطة بشكل سلمى وعبر انتخابات حرة مباشرة بين عدد من الأحزاب السياسية "الشرعية" التى تتوفر بها المقومات والآليات التى حددها القانون، وبالتالى فإن عدم تعيين نائب لرئيس الجمهورية يتيح لنشر ثقافة لديمقراطية جديدة تتناسب وتتلاءم مع الحراكات والتفاعلات السياسية التى يشهدها الواقع المصرى الآن خلال العامين الماضيين.
وبالتالى فمن يروجون لقضية أهمية تعيين نائب لرئيس الجمهورية أو يتصورون حالات الفوضى بعد غياب الرئيس مبارك، لا ترتقى مفاهيمهم لمجتمع ديمقراطى ولا لنظام سياسى تقدمى وتعددى، وإنما مازالت مفاهيمهم أسيرة الأفكار الأحادية القائمة على اختيار واحد من اثنين، فلكى نتفادى موضوع التوريث – سواء كان حقيقياً أم وهمياً- فإنهم يستبدلونه بتوريث من نوع آخر اعتادوه وفضلوه، ولا يمكن لمثل هذه المفاهيم أن تتواءم مع التغيرات الهيكلية التى تحدث فى مصر الآن على الصعيد السياسى، فتداول السلطة أو فراغها لا تحكمه إلا الديمقراطية والقانون، فلا مجال لانقضاض أو اختزال لهذه الديمقراطية وذلك القانون من خلال كلاشيهات وشبهات فى نفوس بعض المحللين.. وبالتالى لا مجال هنا للحديث عن أى انقضاضات سواء كانت من المؤسسة العسكرية - رغم احترامنا العميق لدورها القومى والوطنى – أم كانت تيارات فاشية دينية أم غير ذلك، ولا مجال أيضاً للحديث عن فراغ أو فوضى، فالمسألة محكومة ومحسومة قانونياً ودستورياً، ومن العبث الترويج للفوضى المرجوة.. أو الانقضاضات المبتغاة من بعض القوى.. فمن ينشد الديمقراطية وتداول السلطة عليه أولاً احترام الآليات والمعايير القانونية لحدوث ذلك وعدم تجاوزها أو اختراقها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة