الروتين اليومى فى ركوب وسائل المواصلات العادية للوصول إلى مقر عملى " المترو – الميكروباص وأخواته" قررت كسره فى هذا اليوم .. "ح آخد تاكسى " .. القرار جرىء لا لشىء سوى أنه سيكلفنى ميزانية 5 أيام مخصصة للمواصلات!
من المعادى إلى المهندسين حيث مقر جريدتى سار بى بالفعل التاكسى، الذى ما إن استقليته حتى سألنى السائق الذى لاحظ كم الأوراق التى كنت أحملها وعكفت على القراءة فيها بمجرد أن استقر بى المقام على المقعد الخلفى : " وحضرتك بقى مدرّسة "؟
قلت له : " لا .. صحفية ".
فرد قائلاً : " وفين بقى .. فى جرنال حكومة ولاّ معارضة "؟ .. فرددت عليه باسم صحيفتى موضحة أنها مستقلة لا حكومية ولا حزبية, فاستكمل الرجل حديثه قائلا ً : " طيب أنا على فكرة مبخافش واسمى رشاد أحمد مهندس زراعى وباشتغل فى التموين وبعد الضهر سواق تاكسى .. ونفسى الصحافة تتغير وتبقى لها سلطة بجد .. أصل الصحافة دى هى صوت الناس ولو الناس اتغيرت الحكومة ح تتغير .. يا ريت تحضوا الناس تتغير ومتخافش .. الجرايد كترت أوى بس من غير تأثير" !
استكمل الرجل الذى قارب على الخمسين من عمره وبدون انتظار لتعليق منى على كلامه : " يعنى مثلا ً سلم المعصرة على طريق الأوتوستراد ده كان من وقت قريب بيموت على أسفلته العشرات كل يوم من الحوادث، لحد ما جيه يوم ضربت ملاكى شاب صغير فى السن، يومها قرر الناس فى المنطقة التجمهر وسدوا الطريق بالحجارة واعترضوا وفضلوا واقفين .. تانى يوم اشتغلت الحكومة وتم عمل 8 مطبات فى الطريق ده ومن يومها انتهت الحوادث .. شفتى بقى أن الناس لما اتحركت واعترضت، الحكومة اتحركت .. فيها إيه لو الناس قررت فى يوم كده من صباحية ربنا أنها متشتريش العيش أبو 5 قروش اللى ميتاكلش ده .. تخيلى لو أضربنا يوم عن شرائه" ؟! "أنا شايف إن احنا لو اتغيرنا واتحركنا حاجات كتير أوى ح تتعدل" !
لم يعطنى الرجل أى فرصة للتعليق على كلامه وكأنه كان يتحدث مع نفسه .. انتقل بتلقائية شديدة إلى حديث آخر .. يقول : " والله أنا كل مرتبى 850 جنيها طبعاً مبيكفوش علشان كده باشتغل ع التاكسى ".
انتهزتها فرصة لكى آخذ منه ناصية الحديث عنوة .. سألته : " وعندك ولاد كتير يا أ. رشاد ؟" . تلعثم قليلاً ثم أجاب : " والله أنا معنديش ولاد كتير بس عندى مشاكل كتير .. أصلى منفصل من 3سنوات وعندى ولدين فى الجامعة حالياً " . وعلى الفور قفزت إلى ذهنى الإحصائية الشهيرة ( 60 ألف حالة طلاق كل عام , 5 آلاف فى الشهر , 160 فى اليوم ) كنت أحسبها غير دقيقة .. تهّول أمراً ليس حقيقياً، ولكننى بدأت فى الآونة الأخيرة ولكثرة من أقابلهم من المطلقات والمطلقين أؤمن بأن الأمر جد لا هزل فيه .
سألت المهندس رشاد : وإيه المشاكل اللى عندك مادام ولادك كبروا ؟
رد بعد تنهيدة : " أصل أنا ساكن فى شقة ايجار قانون جديد .. وطلعت من بيتى بشنطة هدومى يوم ما طلقت أم ولادى وسيبت لهم الشقة، وطبعا مصاريفى كترت ومن يومها وأنا دافن نفسى فى الشغل أطلع من وظيفتى على التاكسى وأرّوح خلصان .. وكل لما أتقدم لواحدة أهلها بيطلبوا شقة وشبكة ومؤخر وأنا مش عايز أعيده تانى .. بحس أنهم كلهم طماعين وعايزين يأمنّوا مستقبل بناتهم وخلاص".
رددت عليه : " بس انت لما انفصلت كان ولادك كبروا وما كانتش مراتك حاضن .. سيبت لهم الشقة ليه؟"
تغير الرجل من هدوئه إلى الانفعال : " طبعا يا مدام .. هيه مش حاضن لكن أنا راجل "!
إجابة الرجل فى الحقيقة أدهشتنى .. ففى أغلب حالات الطلاق التى لامستها عن قرب والتى نسمع عنها فى المحاكم، أصبح من المعتاد أن نرى فيها غبن شديد تتعرض له المرأة وأطفالها فى حال وقوع الطلاق وحرص شديد من الرجل على الفوز المادى بأى شكل وبأى ثمن لكى يبدأ حياته من جديد، بصرف النظر عن " كوم من اللحم " ربما يكون اتنين أو ثلاثة أو ماشاء الله من عدد من أطفاله يلقى بهم فى الشارع ليقرر لهم مبلغاً لا يفى بأى متطلبات إمعاناً فى إذلال ومعاقبة مطلقته، بينما ما يحدث بالفعل هو "بهدلة " شديدة يتعرض لها الصغار مادية قبل المعنوية، ولا يتحرك لها ساكن لدى الرجل " الأب" .. أى أن روح الانتقام هى التى تسود فى مثل هذه الحالات مما لا يبقى ذرة من رجولة أو شهامة .
إمارات الدهشة بدت على وجهى .. لاحظها الرجل فأضاف : " صحيح احنا اتطلقنا لكن أنا عشت 10 سنين مع أم ولادى وربنا قالنا " تسريح بإحسان " وفى الآخر دول ولادى .. وشباب .. يعنى لازم يعرفوا بالقدوة يعنى إيه راجل وميصحش أرميهم وأسيب لهم كمان ذكرى وحشة .. أنا فى الآخر يا مدام أب يعنى قدوة وذكرى .. وهّما مالهمش ذنب".
وبدا لى أن الرجل مصّر على إدهاشى .. سألته عن علاقته بأبنائه .. فرد فى أسى : " ابنى الصغير فى أولى جامعة ومادام مطالبه مجابة علاقتنا كويسة .. لكن ابنى الكبير فى رابعة كلية وهو اللى تاعبنى .. اتقدم لبنت كان بيحبها ولكن أهلها رفضوا علشان الظروف الأسرية – إن أنا وأمه متطلقين يعنى - ..ولأنه حساس فمن يومها وهو مستعر يتقدم لأى حد تانى .. وكل لما أكلمه فى التليفون يقول لى .. ليه عملت فينا كده؟ .. وأنا مش ناقص وأنا ح أعمل له إيه بقى .. آدى الله وآدى حكمته ".
وللمرة الأولى شعرت أن هناك " مطلق " يستحق هو وليس مطلقته "الطبطبة " .. فعلا ليسوا سواء . انتهى الحوار .. بانتهاء المشوار ووصولى إلى مقر العمل .. "ماتخلى يا مدام " كانت آخر كلمة قالها الباشمهندس - سواق .. شكرته وغادرت التاكسى وكلماته " يا ريت تحضوا الناس تتغير ومتخافش" .. " تخيلى لو أضربنا يوم عن شراء العيش اللى ميتاكلش " .. "هيه مش حاضن . .لكن أنا راجل " .. ما زالت ترن فى أذنى .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة