في صباح كل يوم يفتح ملايين الأطفال والمراهقين هواتفهم الذكية غير مدركين أن وراء كل إشعار أو فيديو قصير قوة قادرة على تشكيل وعيهم وسلوكهم بطرق خفية . لم تعد شبكات التواصل مجرد وسيلة للترفيه بل أصبحت فضاءً يومياً يمتص انتباههم ويعيد تشكيل نظرتهم لأنفسهم وللعالم من حولهم.
النتيجة وفق خبراء النفس الاجتماعي هي طفولة متشابكة بين الواقع والفضاء الرقمي مليئة بمقارنات لا تنتهي مع صور "الكمال الرقمي" ومحتوى مضلل يزرع قيم وسلوكيات قد تكون ضارة قبل أن يعرف الطفل نفسه جيداً. الإدمان الرقمي صعوبة التركيز والاعتماد المستمر على الشاشات أصبحوا جزءاً من حياتهم اليومية والمخاطر تتراكم في صمت غالباً دون أن يلاحظها الأهل إلا بعد فوات الأوان.
ووسط هذا المشهد المعقد تتسع الفجوة بين سرعة تطور المنصات الرقمية وبطء أدوات الحماية والتشريع . فبينما تُحدّث التطبيقات خوارزمياتها يومياً لجذب انتباه المستخدم لأطول وقت ممكن يظل الطفل الحلقة الأضعف في معادلة غير عادلة يُترك فيها لمحتوى لا يراعي عمره أو نضجه النفسي . الأخطر أن كثيراً من هذه التأثيرات لا تظهر فوراً بل تتراكم تدريجياً في صورة قلق مزمن اضطراب في تقدير الذات أو انسحاب اجتماعي صامت ما يجعل اكتشافها أكثر صعوبة والتعامل معها أكثر تعقيداً.
لكن السؤال الأكثر إلحاحاً يبقى" كيف نحمي جيل ينمو داخل عالم مفتوح بلا حدود ولا رقابة حقيقية؟"، والإجابة جاءت من أستراليا بطريقة غير مسبوقة . في خطوة مهمة لحماية أجيالها من الأطفال والمراهقين أصدرت الحكومة قانوناً جديداً صارماً يمنع ويجرّم استخدام الأطفال والمراهقين دون سن 16 سنة لجميع مواقع التواصل الاجتماعي . خطوة تعتبر نموذجاً رائعاً للحماية الرقمية وتفتح الباب أمام نقاش عالمي حول دور الحكومات في تنظيم العالم الرقمي وحماية أبنائها من المخاطر الصامتة.
الخبراء يؤكدون أن هذه الخطوة ليست حلاً نهائياً، لكنها رسالة قوية: العالم الرقمي ليس بيئة محايدة، ولا يمكن ترك الأطفال ليواجهوا مخاطره بمفردهم . الوقاية تبدأ بالوعي بالحوار المفتوح مع الأبناء عن حياتهم الرقمية بتحديد أوقات الاستخدام ومراقبة نوعية المحتوى لتصبح الشاشات أداة يخدمون بها نموهم بدل أن تتحكم بهم.
وما يحدث خلف الشاشات اليوم لم يعد شأناً فردياً أو خياراً شخصياً، بل قضية مجتمعية تمس الأمن النفسي والتربوي للأجيال القادمة. فكل تأخير في وضع ضوابط واضحة لاستخدام الأطفال لوسائل التواصل هو بمثابة تسليم غير معلن لعقولهم إلى فضاء مفتوح تحكمه المصالح التجارية أكثر مما تحكمه القيم الإنسانية.
نتمنى أن تنتهج باقي الدول خاصة في منطقتنا العربية مثل هذه الخطوات الجريئة لحماية الأطفال والمراهقين من المخاطر الرقمية لتصبح حماية الأجيال الجديدة أولوية حقيقية لا مجرد نقاش نظري.
في النهاية المعركة ليست ضد التكنولوجيا بل ضد غياب الحدود والوعي . أستراليا أظهرت أن القرار الحاسم أحياناً يكون تشريعياً لكن المعركة الحقيقية تبدأ في البيوت في كل حوار بين الأهل وأطفالهم وفي كل خطوة توعية تُبنى على معرفة حقيقية بما يحدث خلف الشاشات.