يشهد العالم خلال العقدين الأخيرين تحولات جوهرية في معادلات القوة، وفي بنية النظام الدولي، وأنماط اشتباك الدول، فضلاً عن تداخل التهديدات وتعقد مصادر المخاطر، ومن ثم ظهرت حروب الجيلين الرابع والخامس، التي تعتمد على تفكيك الدول من الداخل، واستنزاف قدراتها عبر أدوات ناعمة وصلبة متداخلة، وفي ظل هذه التحولات، أصبحت كثير من الدول تعاني من تراجع قدرتها على الردع، دفاعًا وهجومًا، مما يجعلها رهينة لإملاءات الخارج، ومقيدة الاستقلال في قرارها الوطني، ومعرضة لاختلالات أمنية تمس سيادتها واستقرارها، ومن ثم تتجلى أهمية امتلاك أدوات الردع الذكي، القائم على فلسفة دفاعية شاملة، تعلي من شأن السلم، وتحفظ هيبة الدولة، وتؤمن حدودها ومصالحها، وتحقق توازن الردع في محيطها الإقليمي، بما يمنع الانزلاق إلى الصراع، ويضبط سلوك الفاعلين الإقليميين والدوليين.
ويمثل معرض إيديكس 2025 منصة عالمية لعرض القدرات العسكرية والصناعية الدفاعية، وترجمة لرؤية مصر الاستراتيجية في إدراك التحولات العديدة في موازين القوى العالمية، فقد تبنت الدولة المصرية مشروعًا وطنيًا متكاملًا لبناء قوة عسكرية صناعية ذاتية، تهدف إلى ضمان استقلال القرار الوطني، وتعزيز الأمن القومي، وتقليل الاعتماد على الخارج في مجال التسليح، وتقوم الفلسفة المصرية للردع على مجموعة من المبادئ الأساسية، في مقدمتها الردع من أجل السلام، وبناء قاعدة صناعية دفاعية وطنية مستدامة، وتوطين التكنولوجيا، وتكامل الأبعاد العسكرية والاقتصادية والتنموية للأمن القومي.
ويعد معرض إيديكس 2025 بمثابة إعلان واضح عن تحول مصر إلى مركز إقليمي للصناعات الدفاعية، وحاملًا لرسائل استراتيجية تؤكد رفض منطق القوة المجردة، والدعوة إلى استخدام الردع بحكمة ومسؤولية، بما يسهم في ضبط التوازنات الإقليمية، كما ينعكس هذا التقدم في التصنيع العسكري إيجابًا على تحقيق توازن استراتيجي داعم للاستقرار في المنطقة، ويعزز مكانة مصر الإقليمية والدولية، باعتبارها دولة تسعى إلى السلام من موقع القوة، وتحمي أمنها القومي برؤية واعية تستشرف المستقبل.
وبهذا الوعي الاستراتيجي المتضمن رؤية متكاملة لبناء الجمهورية الجديدة، أصبحت الصناعة العسكرية المصرية أحد أهم مسارات القوة الشاملة، وقاطرة حقيقية للتحديث التكنولوجي، وبوابة لإحياء القدرات الوطنية وتوطين المعرفة المتقدمة، أصبحت هذه الصناعة ركيزةً من ركائز الأمن القومي بمفهومه الواسع، وقوة دافعة للتنمية الصناعية ونقل التكنولوجيا وبناء الإنسان، حيث إن امتلاك القدرات الذاتية في مجال التصنيع العسكري يوفر لمصر حماية حقيقية لإرادتها الوطنية، ويجنبها الارتهان لتحالفات متغيرة أو ضغوط مصالح خارجية، فصناعة السلاح تعد وسيلة سياسية واستراتيجية تمنح الدولة حرية المناورة، واستقلال القرار، والقدرة على إدارة أمنها وفق أولوياتها الوطنية.
ويتحقق الردع الحقيقي ببناء منظومة متكاملة تقوم على إنتاج المعرفة، وتوطين التصنيع، وتطوير سلاسل الإنتاج المحلية، وتأهيل الكوادر البشرية، وإنشاء قواعد صناعية قادرة على تعزيز القدرات التكنولوجية للدولة، وهو ما سعت إليه مصر بخطوات متدرجة ومدروسة، عبر تطوير دور الهيئة العربية للتصنيع، وتحديث مصانع الإنتاج الحربي، وإقامة شراكات دولية متوازنة تقوم على نقل التكنولوجيا وتبادل الخبرات، وهكذا تتشكل معادلة القوة المصرية الجديدة قوة واعية، رشيدة، تمتلك أدوات الردع لمنع الصراع، وتستخدم الصناعة العسكرية كوسيلة لتعزيز الاستقلال والسيادة، وترسيخ مكانة مصر كفاعل إقليمي مسؤول يسهم في حفظ توازنات الأمن والاستقرار.
ويمثل معرض إيديكس عبر دوراته الأربع حدثًا استراتيجيًا له أبعاد سياسية وعسكرية وصناعية متكاملة، وإعلان بوضوح عن دخول مصر مرحلة جديدة من الحضور الفاعل في خريطة الصناعات الدفاعية العالمية، ورسالة تؤكد انتقالها من دولة مستهلكة للتكنولوجيا إلى دولة منتجة ومطورة لها، وقد تميز المعرض بحضور لافت لوفود رفيعة المستوى، شملت وزراء دفاع، ورؤساء أركان، وقادة جيوش، ورؤساء وفود رسمية من مختلف دول العالم، إلى جانب مشاركة مئات الشركات العالمية المتخصصة في إنتاج أنظمة التسليح والتقنيات الدفاعية المتقدمة.
ويعكس هذا الحضور حجم الثقة الدولية في التجربة المصرية، ويؤكد إدراك المجتمع الدولي للمكانة الاستراتيجية لمصر ودورها المتنامي في معادلات الأمن الإقليمي والدولي، ويترجم هذا الإقبال الدولي دلالتين جوهريتين الأولى، الاعتراف بأهمية الموقع الجيوسياسي المصري وما يمثله من ثقل سياسي وعسكري؛ والثانية، الثقة في قدرة مصر على التحول إلى مركز إقليمي للصناعات الدفاعية، في ضوء ما تمتلكه من بنية تحتية متقدمة، وخبرات متراكمة، ورؤية استراتيجية طويلة المدى.
وقد شكل ما عرض من منتجات الهيئة العربية للتصنيع، نقلة نوعية واضحة عكست تراكمًا تدريجيًا في الخبرات والاستثمارات والتطوير التقني شمل مجالات متقدمة، من بينها المركبات المدرعة، ومنظومات الطائرات المسيرة، والأنظمة الإلكترونية، والتسليح الخفيف والمتوسط، والمركبات التكتيكية، وقدم المعرض نموذجًا عمليًا على قدرة الهيئة على استيعاب التكنولوجيا الحديثة، وتوسيع طاقتها الإنتاجية، والدخول في شراكات استراتيجية مع كبرى الشركات العالمية، كما أوضح إيديكس تطور دور الهيئة في احتضان البرامج البحثية المتقدمة، وربط التصنيع العسكري بمنظومة البحث والتطوير والابتكار، بما يضمن استدامة القدرة العسكرية، ويعزز من تنافسية المنتج المصري في الأسواق الإقليمية والدولية، ويؤكد أن ما تشهده مصر اليوم مسارًا استراتيجيًا محسوبًا لبناء قوة صناعية دفاعية حديثة.
وأكدت الكلمة الرئاسية أن توظيف القوة كوسيلة لحل النزاعات لا يؤدي إلا إلى تعميق الكراهية وإعادة إنتاج الصراع، وأن الظلم يخلف آثارًا ممتدة تتوارثها الأجيال، بما يهدد فرص الاستقرار ويقوض أسس السلام، وتعبر هذه الرؤية عن مقاربة تجمع بين البعدين الأخلاقي والسياسي، وتضع مصر في موقع الصوت الداعم لحلول سياسية عادلة تستند إلى قواعد القانون الدولي، وإلى ردع رشيد يقوم على امتلاك القدرة التي تفهم دون حاجة إلى استعراض أو شرح.
وقد أشار الرئيس بوضوح إلى أن امتلاك أدوات الردع يدار بعقلانية وحكمة، ويستخدم لضبط السلوك الدولي والإقليمي ومنع الانزلاق إلى الصراع، كما شددت القيادة السياسية على أن الاستقلال في صناعة التسليح يمثل ركيزة أساسية لحماية الإرادة الوطنية، ويقطع الطريق على محاولات الضغط الخارجي التي قد تمارس عبر ورقة السلاح، وهكذا تتبلور العقيدة المصرية بوضوح في أنه لا تنازل عن القرار الوطني، ولا مساومة على الأمن القومي، وردع رشيد يمارس لحماية السلام.
ويعد تفنيد الافتراءات المغرضة التي شككت في قدرة مصر على بلوغ مراحل متقدمة من التصنيع العسكري إحدى أهم رسائل معرض إيديكس، حيث قدمت المعروضات النوعية، وحجم الشراكات الدولية، وكثافة حضور الوفود الرفيعة المستوى ردًا عمليًا يتجاوز الجدل إلى الفعل والإنجاز، وقد نجحت الدولة المصرية في تقديم نموذج يربط بين القوة الدفاعية والقوة الحضارية، ضمن رؤية مستقبلية طموحة تتكامل فيها متطلبات الأمن القومي مع مشروع الدولة التنموي الشامل الممتد في سيناء والصعيد والعاصمة الإدارية والمدن الجديدة.
ويمثل هذا التقدم تحولًا مهمًا في توازنات الإقليم، حيث يسهم امتلاك صناعات دفاعية متقدمة في ردع محاولات الابتزاز أو اختبار القدرات المصرية، لا سيما في ظل تحكم مصر في ممرات دولية بالغة الحساسية من قناة السويس إلى شرق المتوسط، بما يؤكد دورها في حماية الملاحة والتجارة العالمية، وعلى الصعيدين الاقتصادي والأمني، باتت المنتجات العسكرية المصرية مؤهلة للمنافسة في أسواق أفريقيا والعالم العربي كرافد اقتصادي واعد، وفي الوقت ذاته تقوي القدرات الدفاعية الحديثة إمكانات الدولة الدفاعية على مواجهة التهديدات غير التقليدية، وعلى رأسها الإرهاب العابر للحدود وحروب الأجيال الجديدة، بما يعكس فلسفة دولة تبني قوتها لصون أمنها وسيادتها ودعم الاستقرار الإقليمي.
ونثمن جهود القيادة السياسية، ومؤسسات الدولة، وكفاءة رجال القوات المسلحة، ووعي الشعب المصري والتفافه حول قيادته، فإننا ننظر بثقة إلى مستقبل تتبوّأ فيه مصر مكانتها الإقليمية والدولية التي تستحقها بين الأمم؛ مكانة تقوم على القوة الرشيدة، والتنمية المتوازنة، والسلام العادل، واحترام إرادة الشعوب.