رزق على النخيل.. سواعد البدرشين تحصد الخير فى موسم التمور.. المزارعون: مراحل عمل شاقة الكل بيشارك فيها.. النخلة منافعها كتير وعايشين من خيرها.. وطالع نخل: مهنتى كلها خطورة ومهما شقينا مفيش أحسن من اللقمة الحلال

فى هذا الوقت من كل عام، يتبدّل إيقاع الحياة فى قرى البدرشين، فما أن تتدلى عناقيد النخيل المثقلة بـ التمور ويحين موعد الحصاد، حتى تنفتح البيوت مع الفجر، ويغادر أهلها بوجوه مشرقة، ويعمّ الحراك فى كل زاوية، وتمتلئ الحقول بالرجال وهم يتسلّقون النخيل بخفة، وكأنهم وُلدوا بين سعفه، ليحصدوا تعب عامٍ كامل، والنساء يتحرّكن بخطى واثقة بين السلال، يفرزن الثمار بعناية، ويُجهزنها للتجفيف أو البيع، والأطفال يركضون بين السعف المتساقط، يختبئون تحت ظلال النخيل، يضحكون، ويتسابقون لالتقاط الحبات المتساقطة.

موسم حصاد التمور في البدرشين (3)

نقل التمور إلى المناشر لفرزها

فى هذا الموسم، لا أحد يبقى فى الظل، ولا يد تبقى ساكنة، فالرجال والنساء يعملون كتفًا بكتف، تجمعهم نظرة رضا لا توصف، وتشدّهم إلى الأرض رابطة خفية من الانتماء، لا شكوى تخرج من أفواههم، ولا تعب يُظهرونه، رغم أن ظهورهم قد انحنت من ثقل الحياة، وأكفّهم تشقّقت من العمل المتواصل. ورغم أن لكل منهم دورًا، إلا أن الجميع يعمل بروح واحدة، لا تفصلهم الفوارق، ولا تميّزهم المهام، فهذا يخطط أن يُزوّج ابنه من حصيلة ما يكسبه، وذاك يحلم بأن يشترى ملابس الشتاء لأطفاله، وآخر يُقسم رزقه على الأيام القادمة، ليسدّ حاجة بيته.

موسم حصاد التمور في البدرشين

العمال أثناء فترة الراحة

وبينما بدأ الرجال يتوزعون بين النخل، وانشغلت النساء فى فرز الثمار على الحُصُر، تحدث سيد عرفة، مزارع من قرية المرازيق، عن موسم الحصاد وأهميته لأهل القرية من مزارعين وفلاحين وعمال يومية، قائلًا: "بدأ موسم الحصاد وبدأ معاه الكفاح، والشغل، والتعب، والرزق. مش موسم عادى، ده عيد الكل بيُرزق ويفرح فيه، الكل رجال وسيدات بيشتغلوا ويبذلوا مجهود، من طلوع النخل والتقطيع والتنشير لحد الفرز والتعبئة. كل واحد هنا ليه دوره، والكل بيشارك".

المناشر في المرازيق

تجمع الأطفال في موسم الحصاد

واصل حديثه وهو يتأمل الحركة من حوله: "الحصاد عادة يبدأ فى 25 أغسطس أو بداية سبتمبر، وينتهى فى أكتوبر، بداية الموسم بتختلف حسب الجو ودرجة الحرارة، فكل ما ارتفعت الحرارة، الثمار بتنضج أسرع، وده بيأثر بدوره على مواعيد القطع والتنشير والتعبئة"، مضيفًا: "النخلة من وقت زراعتها لحد ما نجمع ثمارها بتحتاج رعاية، من تسميد وتدعيم لتهذيب، وفى مرحلة القطع بيبدأ شغل تانى من قطع وتنشير وتنقية وغسيل لحد التعبئة. دورة حياة كاملة تعبها كبير، لكن عائدها مجزٍ".

طالع النخل في قرية المرازيق

طالع النخل أثناء الحصاد

وبينما كانت عيناه تلاحق الرجال فى أعالى النخل، والنساء داخل المناشر، قال: "الموسم كله بيعتمد على الأيدى العاملة؛ فالبلح بيتقطع من النخلة، ويتخرط ويتنقل بالعربيات للمناشر، لفرزه وتنظيفه وتعبئته وتجهيزه لتوزيعه على الأسواق أو نقله للمصانع لاستخدامه فى صناعة البسكويت وغيرها من المنتجات".

فرز التمور داخل المناشر

مراحل حصاد التمور

تابع حديثه وهو يُشير بيده إلى السلال الممتلئة: "حجم الإنتاجية بيعتمد على الخدمة المقدمة للنخلة، من تسميد ورعاية، كل ما كانت الخدمة أحسن، جودة البلح بتكون أعلى، واحنا بنزرع هنا فى المرازيق نوعين من البلح: السيوى والأحمر. أغلب الناس هنا بيزرعوا السيوى، واللى بيستخدموه فى صناعة العجوة والبسكوت، لأنه طعمه حلو وقوامه مظبوط، وبلح المرازيق معروف أن نسبة السكريات فيه عالية، وثماره كبيرة، وعلشان كده الشركات الكبيرة بتطلبه".

موسم حصاد التمور في البدرشين

موسم حصاد التمور في البدرشين

توقف قليلًا، ثم تابع بنظرة نحو الأطفال الذين يركضون بين النخل: "حتى الأطفال بيساعدوا أهاليهم فى موسم الحصاد، فالشغل محتاج أيادى كتير، حمل، جهد، تعب، وحركة مستمرة. صحيح الموسم متعب، لكن عائده كبير، ومصدر رزق لمركز البدرشين كله، فيه اللى بيجهز من فلوسه جواز ابنه أو بنته، وفيه اللى بيصلّح بيته، أو يخلّص مصالحه، هو دخل أساسى لأغلب البيوت".

فرحة طفل بالتمور

قرية المرازيق في موسم الحصاد

ومع كل هذا الحراك الذى يعم المكان، يعلو صوت خافت لا يسمعه سوى من اقترب من جذع النخلة، رجل اعتاد منذ طفولته أن يتسلق النخل من أجل قوت يومه، واضعًا حياته على المحك، فما أن تشرق الشمس، يقف شامخًا، بملامح سمراء صقلتها الشمس، ويدين غلاظ شدّهما العمل، يثبت قدميه بثقه، ويرتفع بجسده بمهارة لا تخلو من الحذر، وما أن يبلغ القمة، والأرض من تحته تبتعد أكثر فأكثر، حتى يبدأ فى قطع العراجين بمنجله، ليجنى رزقه ورزق عشرات العمال.

عمل الفتيات في موسم الحصاد

فرحة الأطفال بموسم الحصاد

وبينما تتناثر الهمهمات، وتتسابق الأيدى فى جمع الثمار بالسلال، تحدث زهران ابن قرية المرازيق عن حكايته مع طلوع النخل، كيف كانت بداياته، وكيف جعل من تسلقها مهنة تتوارثها الأجيال، وكيف لا يمل من هذا العمل رغم شقائه، والتعب الذى صار عادة، قائلًا: "شغلانتى طليع نخل، وارثها أبًا عن جد، أبويا علمنى وأنا علمت ابنى، كل واحد بيعلم ابنه، بنشتغل فى موسم الحصاد من الفجر حتى المغرب. شغلى صعب جدًا، مفيش مجال فيه للغلط، لو فقدت سيطرتى على رجلى فى أى لحظة هتكون نهايتى الموت، لكن ملناش مصدر رزق غيره، كلنا بنكافح عشان أولادنا، أنا معايا توأم، عندهم 24 سنة، وبنت عندها 9 سنين".

طالع نخل في قرى البدرشين

نقل التمور إلى المناشر

بحبلٍ يلفه حول خصره، ليمنحه الثبات والقوة، وسكين يُسقط به عراجين النخلة، وطبق كبير يجمع فيه الغصون بما تحمله من ثمار، وإرث من المهارة والخبرة والكدّ، يباشر زهران عمله على قمة النخلة، فتابع حديثه بينما بدأ العمال فى تناول وجبة الإفطار، واحتساء الشاى، ومشاركة أطراف الحديث، قائلًا: "أدواتنا بسيطة لكنها أساسية: المشنة، والطبق، والطرف، والمطلاع، والشرشرة، ومهمتى طلوع النخلة وقطع عراجينها، لتسهيل مهمة باقى العمال والمزارعين فى جمع البلح وخرطه وفصله من العراجين وفرزه ونقله إلى المناشر علشان يتم فرزه وتنظيفه وغسله وتبعئته فى الأقفاص والكراتين وتكبيسه وصولًا لبيعه وتوزيعه على الأسواق".

مزارع في موسم الحصاد

مناشر التمور في البدرشين

تجتمع كثيرٌ من الأسر حول موسم الحصاد بما يحمله من رزق، فكل قطرة عرق تسيل، وكل ساعة عمل، تروى كيف يتحول الشقاء إلى رزقٍ يُملأ به البيت فرحًا وأمانًا فى عيد من نوع آخر لا يشبه أى وقت فى السنة، قال زهران: "يوميتى ما بين 400 إلى 500 جنيه، فى موسم الحصاد، بنقطع فى اليوم أربعين نخلة، وأحيانًا ثلاثين حسب الجهد، وباقى أيام السنة بنقلٍم النخل، والجريد ناس بتستفيد منه فى تصنيع الأقفاص والسراير والكراسى والطاولات، ماتقدرش تعد منافع النخلة، النخلة منافعها كتير، وكل الناس بتاكل من خيرها".

طالع النخل في موسم الحصاد بالمرازيق

طالع النخل في موسم الحصاد

وما أن بدأ العمال ينهون فطورهم، يتبادلون آخر رشفات الشاى، ويتهيؤون لمواصلة عملهم، رفع طالع النخل، رأسه نحو نخلة عالية، وارتسم على وجهه أثر مواقف قديمة محفورة فى ذاكرته، وقال: "أنا عندى 52 سنة، واتعرضت لمواقف صعبة كتير. دى شغلة موت، مرة كنت طالع نخلة معوًجة فى أبو النمرس، ومش واخد بالى أن عربية كارو بحصان ماشية من تحت، فجأة، طرف الحبل شبك فى العربية، والحصان بقى يشد النخلة لحد ما بقت بتنام وأنا فوقها، فضلت أصرخ بأعلى صوتى لكن صاحب الحصان ماكنش عارف يتصرف، ولولا أن ربنا ألهمنى وقطعت الحزام بالشرشرة، كنت هموت. إحنا بنقول دايمًا: "طليع النخل مجنون"، ودى حقيقة، لأن طالما الرزق موجود على الأرض، ليه نطلع السماء ندور عليه ونعرض نفسنا للخطر، بس نعمل إيه، ده مصدر رزقنا الوحيد، وإحنا راضيين بقضاء ربنا، بس ربنا يديمها علينا نعمة، ويدينا الصحة ونفضل نشتغل، ورغم كل المخاطر، مفيش أحسن من الحلال، مهما تعبنا وشقينا مافيش أحسن من اللقمة الحلال".