تحول ذوبان الأنهار الجليدية من حدث طبيعي موسمي، إلى كابوس عالمي يهدد مدنا ومجتمعات بأكملها، من جبال الألب السويسرية، حيث ابتلعت الانهيارات قرى كاملة مثل بلاتن، إلى القارة القطبية الجنوبية، حيث يقبع "نهر القيامة" كنذير شؤم للعالم، تبدو الأرض وكأنها تفقد دروعها البيضاء التي طالما حفظت توازنها، ويذر عمم من العلماء ما يحدث ليس مجرد ذوبان جليد، بل قنابل مائية موقوتة قادرة على رفع مستوى البحار وإغراق السواحل، وتشريد ملايين البشر في أقل من جيل واحد.
الرعب يتجسد في قلب جبال الألب
قبل أشهر قليلة، استيقظت سويسرا على كارثة غير مسبوقة بعدما انهارت أجزاء ضخمة من جبل جليدي فوق قرية بلاتن، لتدفن منازل وسكانها تحت ملايين الأمتار المكعبة من الصخور والجليد والطين، وعلى الرغم من أن الـ300 نسمة الذين يقطنون القرية تم إجلاؤهم قبل الانهيار بأيام بفضل تحذيرات الجيولوجيين، فإن حجم الكارثة كان صادمًا، مشاهد الخراب، الكنائس والفنادق والمزارع المطمورة تحت الجليد، جعلت العالم بأسره يتساءل: هل أصبحت جبال الألب نفسها، رمز الاستقرار والجمال الأوروبي، عرضة للانهيار؟.
وأجمع الخبراء على أن ما حدث لم يكن طبيعيًا، بل نتيجة مباشرة لتغير المناخ، حيث أن ذوبان الجليد السرمدي (البرمافروست) الذي يربط الصخور ببعضها جعل القمم الجبلية غير مستقرة. ومع ارتفاع خط الصفر المئوي في سويسرا إلى أكثر من 5000 متر، وهو مستوى قياسي، أصبح ذوبان الأنهار الجليدية السريع بمثابة ساعة موقوتة تهدد القرى السياحية والحياة الريفية التي تشكل جزءًا من هوية البلاد.
نهر القيامة.. قنبلة جليدية موقوتة
وإذا كانت كارثة بلاتن قد أطلقت ناقوس الخطر في أوروبا، فإن "نهر القيامة" أو "نهر ثويتس الجليدي" في القارة القطبية الجنوبية يثير رعبًا عالميًا، حيث تصفه التقارير العلمية الحديثة بأنه "القنبلة الموقوتة" للمناخ، فذوبانه وحده قادر على رفع مستوى البحار بأكثر من 65 سنتيمترًا، وهو كفيل بإغراق مناطق ساحلية مأهولة بمئات الملايين من البشر، من دلتا النيل إلى جزر المحيط الهادئ، مرورًا بمدن عملاقة مثل نيويورك وميامي.
ما يزيد المخاوف هو أن انهيار هذا النهر قد يفتح الباب أمام تفكك كامل للأنهار الجليدية المحيطة، ما يعني ارتفاعًا أكبر لمستوى المحيطات قد يصل إلى مترين أو أكثر خلال هذا القرن، ويحذر العلماء من أن الاحتباس الحراري، وتدفّق المياه المالحة أسفل الجليد، يسرّع عملية التفكك، ويجعل التنبؤ بموعد الانهيار أكثر صعوبة.
جرينلاند.. الوجه الآخر للأزمة
وتعيش جرينلاند، بدورها، مأساة متسارعة. فقدت خلال 25 عامًا نحو 5% من جليدها، أي ما يعادل ضعف مساحة إقليم جاليسيا الإسباني، بمعدل خسارة يقارب 2700 طن من الجليد سنويًا، والأخطر أن ذوبانها لا يرفع مستوى البحار فحسب، بل يغير توازن النظم البيئية البحرية، فالمياه العذبة الغنية بالمعادن التي تصب في المحيطات غذّت نمو العوالق النباتية بنسبة 40% في خمس سنوات، ما يبدو إيجابيًا للوهلة الأولى، لكنه يهدد السلسلة الغذائية البحرية بأكملها، ويضرب الثروة السمكية التي يعتمد عليها ملايين البشر.
ووفقا لتقرير الصحيفة الأرجنتينية فإن هذه الكوارث فتحت نقاشًا مريرًا في دول مثل سويسرا: هل يجب إعادة بناء القرى المهددة مثل بلاتن وبرينز وكنديرستيج مهما كلّف الأمر، أم تركها لمصيرها الطبيعي؟ وتسائلت صحيفة نويه تسورخر تسايتونج السويسرية : إلى متى سيدفع دافعو الضرائب ثمن الحفاظ على أسطورة جبال الألب التي تتفتت أمام أعيننا؟.
من جبال الألب إلى القطب الجنوبي، ومن جرينلاند إلى الهيمالايا، تتوالى التحذيرات: الأنهار الجليدية ليست مجرد مناظر طبيعية، بل شرايين الحياة التي تغذي الأنهار، توفر المياه العذبة لمليارات البشر، وتدعم الزراعة والطاقة الكهرومائية. ذوبانها يعني تهديدًا للأمن المائي والغذائي والاقتصادي للبشرية جمعاء.
ويجمع العلماء على أن السنوات العشر القادمة ستكون حاسمة. إذا لم يتم خفض الانبعاثات الكربونية واحتواء الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية، فإن كوارث مثل بلاتن ستصبح عادية، وانهيار "نهر القيامة" قد يتحول من كابوس إلى حقيقة.