يعترف المنصفون بأن حناجر التلاوة مصرية النشأة والريادة، بل وباب لكل منها مدرسة وأتباع ومقلدون مرتلون أصحاب البشرة السمراء وإخوانهم من أصحاب البشرة الصفراء بل والعجم من الغرب واللاتين وأيضا من أهل العربية، جميعهم تتلمذ رعيلهم الأوائل على أيادى القراء المصريين، ورتلوا القراءات السبع بين يدى المصريين.
وعندما تتعبد بالحرم المكى تجد من يجاورك من الأسياويين أو الأفارقة وغيرهما من الغرب أيا كانت وجهتهم وفجهم العميق، الكل يتقربون منك ويدعونك بالطبلاوى أو المنشاوى والحصرى وعبد الباسط، وإمامهم الشيخ محمد رفعت وغيرهم ممن ندين لهم بالفضل، فقد تلو كلام الله فى مشارق الأرض ومغاربها بل كان الملوك والرؤساء العرب وغيرهم يتسابقون على إحياء ليالى رمضان ببلدانهم عبر حناجر القراء المصرية، وكذلك ذاعت وراجت مبيعات شرائط الكاسيت ثم الاسطوانات المدمجة، ومن بعدهما تنزيلات المواقع الرقمية عبر الشبكة العنكبوتية لتسجيلات هؤلاء القراء العظام المصريين.
وإن كنت لم تزل بالحرم المكى فعليك الفخر بأن من أئمة الحرم المكى هؤلاء الثلاثة من المشايخ الكبار، وأولهم الشيخ عبد الظاهر أبو السمح أو هو محمد عبد الظاهر محمد نور الدين مصطفى على أبو السمح الفقيه، وهو ابن قرية التلين بمركز منيا القمح محافظة الشرقية، وكان معلما مدرسا بالسويس ثم الإسكندرية، وهو ثالث أئمة الحرم الشريف وأول إمام للحرم المكى من خارج السعودية، فقد عرض عليه الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1926 ليكون أحد أئمة الحرم المكى.
أتم الشيخ عبد الظاهر حفظ كتاب الله على يد والده وهو ابن التاسعة، ثم التحق بالأزهر فتلى ورتل قراءات القرآن السبع، وتتلمذ بين أياد كبار الشيوخ ومنهم الشيخ محمد الشنقيطى والإمام محمد عبده، ولم يكن طلب الملك عبد العزيز آل سعود من الشيخ عبد الظاهر أن يكون إماماً للحرم المكى وفقط بل ومدرساً به وبدار الحديث بمكة المكرمة، ورافق الشيخ عبد الظاهر كلا من الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ.
وعندما أدى الشيخ محمد عبد الظاهر ركن الحج فى 1345 هـ عندما دعاه الملك عبد العزيز ليكون عضوًا فى مؤتمر مكة المكرمة ذلك العام، ولما كان الله تعالى قد منّ على الشيخ محمد عبد الظاهر وجعله صوتا رخيما من أصوات القرآن الكريم وأعطاه مزمارًا من مزامير داود، فقد طلب إليه الملك عبد العزيز آل سعود أن يكون إمامًا وخطيبًا للحرم المكى لما أعجبه من رخامة صوته وعذوبة تلاوته للقرآن، وقد شنف الأسماع وأبكى القلوب قبل عيون المصلين خلفه من ضيوف الرحمن.
ويعود للشيخ محمد عبد الظاهر دور عظيم فى تأسيس دار للحديث بمكة سنة 1352هـ والتى رحب الملك عبد العزيز بهذا الطرح وخصص لها مساعدة مالية سنوية، وبلغ من إعجابه بها وبصاحبها أن جعل دار الأرقم بن أبى الأرقم مقرًّا لها.
وظل الشيخ أبو السمح مديرًا لدار الحديث ثمانية عشر عامًا موجهًا طلبتها وجهة الكتاب والسنة عملاً وعلمًا، وقد استعان بصهره الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة ليعمل مساعدًا له ومعلمًا بالدار، وذلك بعد أن أصابته الشيخوخة المبكرة والضعف والوهن حتى عجز فى آخر أيامه عن الإمامة والخطابة بالحرم إلا نادرًا، بعد دوام قارب الربع قرن من الزمان، وتوفى فى الساعة الثالثة من صباح يوم الاثنين العاشر من رجب 1370 من الهجرة النبوية 1950م وقد جاوز نصف العقد السابع، وكانت وفاته بمستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة إثر تسمم كان نتيجة التهاب فى الكليتين، وقد كان يشكو من قديم مرض السكر، فنشأ عن ذلك ضعف فى القلب وهبوط فى قواه وانتقل إلى رحمة مولاه الرحيم، وأرسل الملك عبد العزيز برقية عزاء إلى عبد اللطيف أبو السمح، قال فيها: "مصابنا مصابكم، وأمر باستضافة عائلته بالحجاز، ونستكمل فى القادم إن شاء الله أسماء لأئمة الحرمين من المصريين.