حازم حسين

أخطر 4 أشهر فى عُمر فلسطين.. مآل القضية العالق بين احتلال غزة وزيارة ترامب المُرجأة

الأربعاء، 03 سبتمبر 2025 02:00 م


اثنان وعشرون شهرا من الجحيم، ويبدو أن الأسوأ لم يأت بعد. ظاهر المأساة يصرف الأنظار عن الجزء الغاطس من جبل الجليد، فيركز الجميع على ما يجرى فوق السطح فى غزة، ويفوّت كثيرون منهم كل الإشارات المزعجة بشأن ما يُدار فى الكواليس.

وأخطر تلك الخفايا، ورشة الحلول التلفيقية الممتدة من تل أبيب إلى واشنطن، والعكس، وإغراقنا بمواجع الحرب وتصاويرها الفجة، فيما يوجه فاعلوها كامل طاقتهم نحو الانتقال من الترويع والتجويع إلى الإجهاز والتصفية، مستترين بغبار المعارك وروائح البارود والدم، ومطمئنين إلى أن الموت يتسيد فضاء القضية، فلا يترك هامشا للبحث فى تلك البقعة المنكوبة عن الحياة.

عملت حماس شهورا وسنوات فى الأنفاق، ثم خرجت بطوفانها إلى وجه الأرض. وعلى النقيض منها، كثّف نتنياهو أنشطته الإبادية فى المجال المنظور، ويشتغل الآن فى الأعماق والغرف المظلمة على المرحلة التالية.

الغاية مُعلنة منذ زمن بعيد، لكن الوسائل كانت خفية وغامضة، وما تزال، ويتسارع الاشتغال على إعادة تكييفها بما يُلائم المستجدات، ويُلبّى طموحات ترامب أو يحتال عليها. فيما الحركة مقيّدة بذهنية الخنادق، ومحكومة بخفة الفنادق، ولا تُحسن إدارة المُضمر والمُعلن، كما لا تتيح مكانا لغيرها على طاولة النكبة، أو تخلّى مكانها للقادرين على لملمة آثار الفوضى، والصالحين للاضطلاع بالمهمة بنزعة وطنية لا تعطلها العاطفة ولا تشوهها الأيديولوجيا.

يضرب الاحتلال فى كل زاوية واتجاه. وقد فرغ نظريا من القطاع، وأعد عدّته لاجتياح غزة وفرض الهيمنة العسكرية على كامل الشريط الضيق. وإزاء التنازع فى التصعيد والتبريد، وصفقة التبادل وطبيعة اليوم التالى، يُحول الأزمة الإنسانية إلى ستار ينسدل على أهداف أكبر، وثغرة تبتلع الطاقات وتُسرّب حرارة الصراع وما تبقّى من فاعلية النضال بصوره الخشنة والناعمة، منتقلا تحت جنح الحالة النكبوية إلى تسريع ماكينة القضم والاستيلاء على الأراضى فى الضفة الغربية، وقطع المسارات الكفيلة بالوصول إلى حل الدولتين، أو مجرد الحلم بتجسيد فلسطين المستقلة على أى حيز من الجغرافيا السليبة.

اجتمع المجلس الوزارى المصغّر/ الكابينت فى الأسبوع الماضى لبحث خطة احتلال غزة، ثم استدعاهم رئيس الحكومة بعد ظهر الأحد على جدول أعمال من عدة بنود، ولم يُفصح لاحقا عن تفاصيل الاجتماع ومجريات الحوار بشأن المسائل العالقة ومداها الزمنى، وأخيرا كان التلاقى أمس على خطط الاستيطان ووتيرة ضم الأراضى غربى نهر الأردن، وهل تكون عمومية بقرار واحد، أم تتدرج تباعا، وبالأغوار أولا أم بالمنطقة ج.

والبادى أنه يستبق موجة الاعترافات الدولية المتوقعة على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، لكنه فى واقع الأمر ينتهز الفرصة السانحة، ويواصل استحلاب ذرائع الطوفان وتداعياته، ويخلط الأوراق شرقا وغربا لتتعذر مواجهته على كل الجبهات، ويضمن فى زحام المواقف والمواجهات أن ينفلت بربح صافٍ فى كل الأحوال.

كان تكتيك السابع من أكتوبر يستند إلى الإرباك بالمفاجأة، ثم التشتيت بالكثافة وتعدد الساحات. والرهان الذى عوّل عليه السنوار انقلب ضدّه، أو لصالح عدوّه اللدود، فاستفاد من رخاوة الممانعة وسوء إدارتها للمشهد الطارئ، مُتنقلا بين الجبهات ونقاط التماس بإيقاع محسوب، وبما يحقق له دقة الاستهداف وفاعلية الأثر، ولا يحرمه من مزايا التحكم فى الجولة ومواصلة الاستدراج بأناةٍ واستعداد.

وبهذا، أطاح بالحزب شمالا فى لبنان، وحيّد الجغرافيا السورية بسقوط نظام الأسد، فانفتح له مسار مباشر لاختصام إيران، والحط منها فى عقر دارها. وبقدر ما كانت غزّة وقوده فى تلك الرحلة الطويلة، فإن التفريعات اللاحقة أعانته عليها أيضا، ومكّنته من الاستفراد بها دون الحلفاء، والتشغيب على مظلمتها بدعاياتهم. كانت وحدة الساحات شعارا أكثر من كونها ورقة قوة صالحة للاستغلال، وارتدت على أصحابها للأسف بما زادهم ضعفا على ضعفهم، وأضاف للصهاينة مزيدا من القوى فوق قواهم المتفوقة أصلا.

تضخمت الفروع حتى حجبت الأصل. وسمحت المسارب الجانبية للاحتلال بإطالة أمد العدوان، وتبديد طاقات العالم فى مواكبة كرة النار المتدحرجة بين البيئات القريبة والبعيدة. والأهم أنها استدعت الولايات المتحدة على شروط تل أبيب، وأدخلتها إلى قلب الحرب من أبواب خلفية.

صحيح أن واشنطن لم تظهر صراحة فى مشهد غزة، ولا لعبت أدوارا عملية فى القتال المباشر، لكنها كانت شريكا أصيلا على الجانب اللبنانى، وفى الإغارة على الجمهورية الإسلامية ومرافقها النووية، وتلعب لصالح اليمين الصهيونى فى الشام منذ ديسمبر الماضى، وكلها هوامش على حاشية المتن الغزى، ورغم أنها قد لا تبدو مؤثرة فى واقع القطاع، فإنها تتحكم بقبضة غليظة فى مساعى التهدئة وترتيبات ما بعد الحرب.

استغرقت إدارة بايدن شهورا لتستوعب الصدمة، وعندما أحاطت بها كانت قد تورطت فى الاشتباك من موقع الشريك لا الوسيط، ومنعتها الطموحات السياسية واقتراب موسم الانتخابات من تعديل الرؤية أو تصويب المقاربة.

أما ترامب فقد قفز فى النار اختيارا، ويبقى فيها متطوعا وعن رغبة ذاتية خالصة، إذ لا يتحمّل وزر البدايات ولا يخشى شيئا من تعقد النهايات، لكنها الطموحات الخاصة لإنجاز صفقة تعزز هالة صانع الصفقات، وتضيف لأرباحه المباشرة كما يليق بمستثمر يزن الأمور بالربح لا القيمة. ويبدو أن زعيم الليكود أحسن مُغازلة غريزته الاستعراضية والمادية، وانتزع منه تصريحا بخوض المغامرة إلى آخرها، وغض الطرف عن أعباء الصورة وقيود السياسة والقانون.
استُهلِك جدل عظيم فى تعريف المُعرَّف، وردّ الوقائع إلى أصولها على مقياس قويم من الضمير والقانون. وما أُهِدَر الوقت إلا عن احتيال من الصهاينة، واستخفاف ونزق من المُمانعين.

واليوم، يعرف العالم حقيقة ما يجرى فى غزّة، ويُغالب النعاس جهد طاقته، ولا يعرف سبيلاً إلى اليقظة الكاملة. قبل يومين قطعت الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية قول كل خطيب، وقالت إن ما يجرى فى القطاع يستوفى التعريف الكامل للإبادة، وصوّت على هذا نحو 86% من هيئتها البالغ عددها 500 عضو.

لا مجال للإنكار، ولا معنى للدوران حول الذات على محور ثابت. يعرف الأمريكيون قبل غيرهم حجم الجريمة الماثلة، ويُشرفون عليها ولا يتورّعون عن وقفها، وبدلاً من الاضطلاع بالتزامات التحضُّر والريادة الدولية، يُقرّرون حصار السلطة الوطنية ومَنعها من الوصول لمنصة الأمم المتحدة، لا لشىء إلا الرهبة من إعلان الرئيس عباس عن الاستقلال من طرف واحد، وفى حماوة الزخم وكثافة الاعترافات الدولية، وقد تطاولت القائمة بدءًا من فرنسا وإلى بلجيكا التى أعلنت موقفها مؤخرا.

الرئيس ترامب يتقافز على أكثر من موجة، ما بين القول إنه لا حل إلا بالقضاء النهائى على حماس، ثم الإيحاء بالاقتراب من التوصل لاتفاق مرحلى فى غضون أسابيع، وأخيرًا ما نقله عنه نتنياهو فى اجتماع الكابينت، من أنه قال له صراحةً إن عليهم الانصراف عن كل الصفقات الجزئية، واجتياح غزة وإنهاء الأمر مرّة وإلى الأبد. أى أنه يُغازل ظاهرًا بالسياسة، ويذبح خِفية بالحرب والسلاح.

وإذا أضفنا تنويعات سيّد البيت الأبيض، إلى شكل آخر من الغموض يُديره مبعوثه الرئاسى الخاص ستيف ويتكوف، فربما تنجلى الصورة بدرجة أكبر. لقد أشرف الرجل على هُدنة يناير، وبعدما أفسدها سفاح تل أبيب بإرادة فردية فى مارس، أعدّ ورقة بديلة رفضتها حماس، ثم عدّلتها قطر، ثم أعادت مصر طرحها مُجدّدًا، فتقبّلتها الحركة وصمت عليها الصهاينة. وآخر ما تبرّع به فى هذا الشأن، أنه قال إن غزّة تقترب من تسوية بحلول نهاية العام الجارى.

ارتخى الحبل الذى كان مشدودا، وطالت المُهلة مرّة بعد مرّة. وعلى قدر ما يُستَشَفّ من ذلك ارتباك الإدارة الأمريكية، وغياب رؤيتها، والعجز عن إمضاء إدارتها على الحليف الإسرائيلى المُنفلت، فالأقرب للمنطق أنها مسرحيّة مُعدّة سلفًا، ومُتّفق عليها، ولا شىء فيها يأتى عفوًا أو من قبيل الارتجال غير المحسوب. تضخّم التابع حتى صار سيِّدا يُملى على سادته، وتقزّم المتبوع إلى رُتبة المُمثّل الثانوى فى دراما يطبخها نتنياهو ويُحدّد فيها أدوار الحلفاء والمُنافسين.

ولا أعتقد شخصيًّا أنه فى صراع مع رئيس أركانه إيلى زامير وكبار الجنرالات. فالرجل الذى حلّ بديلاً عن هرتسى هاليفى قبل عدة أشهر، اختير مباشرة من رئيس الحكومة، وبينهما مودّة سابقة وعلاقات عميقة، وقد عمل مستشارا عسكريا لصالحه قبل سنوات.

وغالب الظن أنها لُعبة توزيع أدوار لا أكثر، ومحاولات مستميتة للمناورة والمُداراة وتدوير الزوايا، ليكون الجيش مُعادلا وازنًا مقابل شركاء الائتلاف من التوراتيين وأحزاب المستوطنين، بقدر ما يلعب الأخيرون دور الكوابح قبل اللحظة الأخيرة من التورّط فى صفقة، ويتكفّل الجدال بين الطرفين بتضليل المُعارضة السياسية، وإنهاك الشارع، والإيحاء للخارج والداخل بضبابية الموقف دون حسم الخيارات.

وتعقُّد الخيوط وتشابكها مقصود تماما، وناشئ بالأساس عن ماهيّة اللاعبين وتنوّع الامتحانات بشأن غزّة وعموم القضية الفلسطينية. الرغبة عالية فى قطع دابر الفصائل وتعقيم القطاع، وفى تأبيد الانقسام وعزل الشريط الساحلى عن الضفة الغربية، ومن وراء ذلك عليه أن يُمرّر أهدافه دون استثارة القوى الصلبة من دول الطوق، أو الضغط على أعصاب المنطقة العارية فى بقية النطاقات المفتوحة، كما عليه امتصاص غضبة العالم، ومُلاعبة أوروبا لحين امتصاص فائضها العاطفى، وإعادتها إلى حظيرة الرؤية الأمريكية مُجدّدًا.

أحدث الإفادات أن ترامب بصدد الاستعداد لزيارة إسرائيل فى مطلع ديسمبر المقبل. وكانت تسريبات سابقة قد أشارت إلى موعد أبكر من ذلك، وحددته فى نطاق الشهر الجارى. ومع انعدام الحاجة لجسّ النبض فى مسألة الحلول الرسمى للبيت الأبيض فى فضاء تل أبيب، فالخلاصة أن الرحلة أُرجِئت بعد جدولتها الأولى، ولا دافع لتلك الإزاحة الزمنية الطويلة نسبيًّا، إلا أن الإقليم بصدد ترتيبات يُعَدّ لها فى الكواليس، وأن رجل الصفقات الأول لن يأتى ليقول كلامًا مُعادًا ومكرورًا، إنما لإنفاذ أفكار وحلول من خارج الصناديق الاعتيادية، أو هكذا يتصوّر.

كان سلفه بايدن قد حلّ ضيفًا على الحليفة الصغرى بعد عشرة أيام فقط من الطوفان، وأرسل وزيرى خارجيته ودفاعه، ونصّب جنرالات وخبراء عسكريين فى غرفة عمليات الحرب. ومن الغريب أن يستقبل ترامب نتنياهو فى البيت الأبيض ثلاث مرات منذ تنصيبه، ولا يزوره فى معقله حتى الآن، بل أنه تجاوز الأعراف المُعتادة عندما حطّت طائرته فى الرياض منتصف مايو الماضى، ولم يعبر منها إلى تل أبيب كما فعل هو نفسه فى ولايته الأولى.

وبالنظر إلى طول المدّة منذ حلول الرئيس على البيت الأبيض، وأن الحرب مُتّصلة ولم تتغير أوضاعها على الأرض، فالراجح أن الزيارة ما أُرجئت إلا لكى لا تكون عملاً مجانيًّا، وما تحدّدت بالموعد المشار إليه، إلا لأن الطرفين اتفقا على الترتيبات المقرّرة بشأن الأزمة الراهنة، وملامح اليوم التالى، وما يُراد إنفاذه فى مرحلة ما بعد حماس. أى أن ما بعد هبوط ترامب فى تل أبيب لن يكون كما كان قبله على الإطلاق.

وهنا تتوجّب الإشارة إلى اجتماع الأسبوع الماضى فى البيت الأبيض، وقد دُعِى إليه رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير، والصهر ومستشار الولاية الأولى جاريد كوشنر، ورجّحت تقارير أن موفد نتنياهو ووزيره للشؤون الاستراتيجية رون ديرمر كان شريكا فيه، أو حضر جانبا منه، وبالأقل كان موصولاً بفعالياته بشكل أو بآخر.

وما تناولته الصحافة الأمريكية عن اللقاء أنه توصّل لرؤية تُطابق فكرة «الريفييرا» التى أثارها ترامب فى فبراير الماضى، وتنطق من إعلان الوصاية الأمريكية على غزّة لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وتحويلها إلى مُنتجع سياحى ومنطقة اقتصادية مزوّدة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، وبتيسيرات متنوّعة لإجلاء أكبر قدرٍ من الغزيين، واستيعاب الأقلية الباقية فى عِدّة مُدن سكنية، سيكون دورها بالتأكيد أن تزوّد المشروع باحتياجاته من العمالة الرخيصة.

اتُّخِذ القرار غالبا، ولا يتبقّى سوى ترسيم الطريق وبدء الإنفاذ. وسيكون خليطًا من طموحات التابع وأطماع المتبوع/ تهجير نتنياهو وريفييرا ترامب. كان الطرح قد أثار اعتراضاتٍ واسعة، وأهاج البيئتين الإقليمية والدولية، والأرجح أن امبراطور البيزنس لم يتناساه طوال الشهور الماضية نزولاً عنها، إنما لإعادة تكييفه وإثارته على وجه جديد، لن يستفز القاهرة من جهة الإزاحة السطحية إلى سيناء، انصرافًا عن المغامرة بتوسيع الصراع وإفساد الخطّة، إنما سيُديرها من داخل القطاع مباشرة، وعبر ممرات برية إلى مطارات إسرائيل وموانيها، وبحيث لا يُحتَكَم فيها من الأساس لرؤى الدول المتقاطعة مع القضية الفلسطينية وثوابتها وتفضيلاتها، بل للإيجاب والقبول أو الإكراه الخالص بين الاحتلال والضحايا.
وفى ضوء كل ذلك، فإن الرسائل المتواترة بكثافة واختلافات بيّنة، وإلى حدِّ التناقض الصارخ من القناة الواحدة وفى اللحظة نفسها، ليست ناشئة عن الفوضى والارتباك وتقطُّع السبل، بل عن معرفة وقصد وبرنامج منضبط ومحسوب تماما. حدث أن تلاقت فيه الرؤى بين واشنطن وتل أبيب، وتطوّرت مسارات التنسيق بينهما من الرعاية والإسناد تحت ضغط الأعباء الأمنية وتثبيت الوجود، إلى الشراكة الاختيارية الكاملة فى تصفية القضية، وتقاسم ما تبقّى من تركتها الصالحة لإعادة إرساء توازنات جيوسياسية وجيواقتصادية جديدة على امتداد المنطقة.

كان نتنياهو يُرسل وفوده التفاوضية منزوعة الصلاحيات. يُفوّضها صباحًا ويستدعيها إليه فى المساء، ويُبدى قدرًا من الانفتاح إلى طاولة الحوار، فيما يُكثّف جهوده ويطوّر عملياته وخططه الحربية فى الميدان.

وكذلك تفعل واشنطن من يناير الماضى، وتُحيِّر المراقبين والمُحلّلين فى نوايها، ومدى القدرة أو العجز عن لجم الحليف المُنفلت أو فرض رؤاها التسووية عليه. والحال، أنها كانت لعبة تتقصّد الإرباك والتضليل، وتعمد إلى تقنية الإغراق بتكثيف الرسائل وتضاربها، وبما لا يسمح للطرف الآخر باستقراء جوهر اللحظة، أو استشراف المآلات المُرتَّب لها، وبحيث تظل فلسطين مُجمَّدة عند النقطة ذاتها، فيما تتسارع خُطى تطويقها والإجهاز عليها من كل الزوايا.

الشهور الأربعة المقبلة أخطر فترة فى عُمر غزّة منذ الطوفان واندلاع الحرب، وربما فى عُمر القضية الفلسطينية بكاملها. أهون الأضرار أن يتأبَّد الانقسام وتُعزَل غزّة عن محيطها للأبد، وأشدّها ألا تبقى من الأساس، وأن يتآكل الرصيد الذى يقوم عليه النضال الوطنى ومشروعه التحرُّرى من الأساس، وبعدما يُشطّب القطاع من خارطة الدولة المأمولة، سيكون ميسورًا تكرار التجربة فى الضفة الغربية، إمّا بالاشتغال على التهجير جهة الأردن، أو فى الأقل تحويلها إلى جُزر معزولة وإمارات منقسمة على ذاتها، وتتسابق فيما بينها على الاعتراف بالمُحتل ونَيل رضاه.

وكلّ ما فات ليس سوداوية مُفرطة، ولا تخليقًا من العدم. الشواهد واضحة لكل ذى عينين، والسوابق تُقيم الحجة على المُتفائلين، وتقطع بأن فلسطين طوال العقود الثمانية الماضية تنزلق من سيّئ إلى أسوأ. حتى حماس نفسها تقبل اليوم ما كانت ترفضه أمس، وستُرحّب غدًا بأقلّ مِمَّا تتمسّك به اليوم. وعلى ثِقَل الحالة وعِظَم مخاطرها، فالمؤكَّد أنها مُجرّد سيناريو عدائى حتى الآن، وليست قدرًا نهائيًّا رُفِعَت الأقلام عنها فى السماء، وستوقّعه على الأرض مشمولا بوجوب النفاذ.

وبعيدًا من الوهم واستمراء الركون إلى الكسل الذهنى والخطل الأيديولوجى، فالحقوق العادلة كثيرًا ما تضيع، وما تعهّدت العناية الإلهية لمُقصِّر أو مُفرِّط بشىء لم يجتهد فى حمايته والدفاع عنه.

أُمم بادت، ودول عِدَّة مُسِحَت من الخرائط، وشعوب صارت أثرًا بعد عين، ونتنياهو ينطلق من موعظة العودة إلى الأرض المقدسة بعد قرون الشتات، كما تقرّ فى وعى ترامب تجربة سكان أمريكا الأصليين وما آلت إليه حالهم. الغاية واضحة، والخطّة أُعِدَّت واكتملت، وبدأ مسار التنفيذ، ولا يتوجّب الصمت اكتفاء باليقين الإيمانى الساذج، أو ارتضاء بالعجز، واستمراء لافتتاح المغامرات دون انشغال بإنهائها، ولتحميل الآخرين كُلفة المقامرة وألاعيب الأصولية الخاسرة.
إذا كان القصد التهجير فلا ردّ إلا تثبيت الناس على أرضهم، والموقف الوحيد من اقتطاع غزّة أو فصلها، أو يُعاد وصلها بالضفة، وأن تُبنّى الجسور المُتهدِّمة ويتّصل المنقطع مع بقية المكونات الوطنية. والمداخل لهذا واضحة وإلزامية، ولا مفاضلة فيها أو تخيير: اعتراف حماس بالواقع أوّلاً، ثمّ التنحّى عن منصّة الاستهداف وتوليد الذرائع، واستدعاء السلطة الوطنية ومُنظّمة التحرير، ثم البحث عن حلول عملية تُشرك أوسع دائرة إقليمية ودولية مُمكنة فى حراسة الجغرافيا والديموغرافيا، أو إقامة الموانع والعراقيل أمام آلة نتنياهو الحربية، ولُعاب ترامب السائل على سواحل القطاع.

واجب اللحظة يبدأ بالاستقراء والاستباق، بالمصالحة وتمكين الكيانية الحائزة للشرعية من التجسُّد الفاعل على كامل الأرض، وتوحيد القيادة والرؤى فى رأس واحد.

إحالة التفاوض والرهائن ومجادلات اليوم التالى إلى السلطة تحت مظلة وطنية، وبشبكة أمان عربية ومن الدول المُعترفة بفلسطين والمدافعة عن حقوقها.

استشكاف فرص الاتفاق فى مهلة زمنية مُحدّدة، وإلا فالمبادرة بتحرير الأسرى من طرف واحد، وإرساء إدارة مدنية غير فصائلية للقطاع، مع دعوة مجلس الأمن إلى تسلُّم سلاح حماس، والاضطلاع بأدوار عملية فاعلة، ولو عبر وضع غزّة وحدودها مع الاحتلال تحت الفصل السابع.

أُرهِقَت حماس، وأرهَقَت غزّة وفلسطين، ويجب ألا تظلّ على إصرارها الذى لا يُضيّع آمالها فى البقاء فحسب، بل يودى بالقضية وأهلها جميعًا إلى الهلاك. ولا مجال للانتظار والتراخى، كما لا رفاهية تسمح بتقطيع الوقت والرهان على الظروف والمصادفات. ما يُعَدّ فى الظلام أخطر مِمّا يُرتَكَب علنا ضد الغزيين، وما تسبّبت فيه الحركة أعان العدوّ بما يفوق أحلامه، ولا عُذر فيه بحُسن النيّة أو عشوائية الأخطاء غير المقصودة.

المهم استنقاذ ما يُمكن إنقاذه، والخروج من دوّامة نَهِمَة ولا تلفظ ما تبلعه، ولن تتوقّف عن الدوران وتخطّف البلاد والعباد من كل ناحية مُمكنة. إنه فاصل ضيِّق بين الصون والتبديد، التعقُّل والغباء، الوطنية الصادقة والشعبوية المُضلّلة والمُضيعة أيضًا، وما يتقاعس عنه المُكلّفون بالاعتذار والتصويب اليوم، سيدفع الوطن بكامل أطيافه أثمانًا مضاعفة عنه، ولعقود طويلة مُقبلة.

الصهاينة لصوص دمويّون ولا حاجة لتدليل أو توكيد، والسيف الأمريكى بتّار ويميل إلى جانب واحد، والعالم بكامله مُحايد أو عاجز، ولا أُفق لمُعجزة أو قوّة علوية تُحقّ الحق وتمحق الظالمين. وهُنا، يصير من واجب المُناضلين ألا يكونوا قرابين وذبائح مجانية، وألّا تقودهم الشمولية والأحلاف والمُكايدة وابتزاز الآخرين، إلى إدماء أجسادهم، أو تضييع أصولهم الثمينة وقضيتهم العادلة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب