حسين عبدالبصير

المضحكخانة.. رحلة موسوعية فى تاريخ الفكاهة المصرية

الجمعة، 19 سبتمبر 2025 11:28 ص


فى عالم البحث التاريخى والاجتماعى المصرى، يبرز الباحث والمؤرخ الكبير الأستاذ محمد غنيمة كأحد الأصوات الرائدة فى إعادة كتابة التاريخ الحديث والمعاصر لمصر من منظور شامل، يجمع بين الدقة التوثيقية وروح السرد الممتع، ليقدّم للقراء صورة متجددة وشيقة عن الشخصية المصرية وعلاقاتها بالواقع عبر العصور، أحدث أعماله، كتابه الجديد "المضحكخانة.. سياحة في تاريخ مصر الفكاهي"، الصادر عن دار الرواق للنشر والتوزيع العريقة، يمثل ثمرة مشروع طويل المدى يهدف إلى دراسة ظاهرة الفكاهة والسخرية في مصر، وتوثيق تاريخها على امتداد العصور، من القدماء إلى العصر الرقمي الحديث.

يأتي هذا الكتاب في سياق مشروع غنيمة الأكبر، الذي سبق أن أظهر نتائجه في مؤلفات مثل "لم يصبه العرش.. دسائس ومؤامرات الأسرة العلوية"، و"ذاكرة النخبة.. أوراق ومراسلات نادرة من التاريخ الحديث"، و"عروش تتهاوى"، والتي جسدت اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة والموثقة للأحداث التاريخية والشخصيات البارزة في تاريخ مصر، وما يميز غنيمة في كل أعماله هو الجمع بين البحث الأكاديمي الصارم وسرد القصص التاريخية بأسلوب سلس يجذب القارئ ويجعله على اتصال مباشر بالواقع التاريخي والثقافي.

في "المضحكخانة" يأخذنا غنيمة في رحلة ممتعة عبر تاريخ الفكاهة المصرية، مستعرضًا كيف شكّل الضحك والسخرية جزءًا أصيلًا من هوية المصري، وسلاحًا ذكيًا لمواجهة الظلم والاضطهاد، سواء من الحكام المحليين أو الغزاة الأجانب، مع الحفاظ على روح الدعابة التي تميز الشخصية المصرية عبر العصور، يبدأ الكتاب من العصور القديمة، حيث سجّل المصريون نكاتهم وفكاهتهم على جدران المعابد والمقابر وعلى أوراق البردى والفخار، مؤكدين أن الضحك كان عنصرًا مركزيًا في حياتهم اليومية ووسيلة للتواصل الفكاهي مع محيطهم.

يستعرض غنيمة في الكتاب كيف استخدم المصريون الفكاهة لمواجهة الغزاة والمحتلين، مثل الفرس، اليونانيين، والرومان، بل وحتى الحكام المحليين. فقد أطلق المصريون ألقابًا ساخرة على الحكام مثل «الحمار» للملك الفارسي أوخوس، و«الزمار» لبطليموس الثاني عشر، و«بائع السمك المتجول» لإمبراطور آخر، و«النسناس المدلل الصغير» للقيصر، كأدوات ذكية لمواجهة التعسف والظلم، مع الاحتفاظ بروح الدعابة المميزة التي تميز الشخصية المصرية عبر العصور.

الكتاب يعكس أيضًا أهمية الصحافة الفكاهية في مصر الحديثة، خاصة في نهاية القرن التاسع عشر، مع ظهور أسماء بارزة مثل يعقوب صنوع وعبد الله النديم، اللذين أسسا مجموعة من المجلات والصحف الساخرة، مثل «أبو نظارة»، و«التنكيت والتبكيت»، و«الأستاذ»، والتي كانت تهدف إلى نقل النقد الاجتماعي والسياسي إلى العامة والخاصة، مكتوبة بالعامية والفصحى معًا، لتكون أداة فعالة للتفاعل مع الأحداث اليومية ونقد السلطة بأسلوب ذكي وساخر.

يتابع الكتاب تطور الكاريكاتير المصري، من خلال أعمال محمد عبد المنعم رخا وصاروخان، الذين نجحا في ابتكار شخصيات خالدة مثل «رفيعة هانم»، و«أم سحلول»، و«غني الحرب»، والتي أسهمت في بناء ذاكرة بصرية للفكاهة المصرية. ويعرض غنيمة كيف انتقلت الفكاهة من المقاهي والمجلات إلى البرامج الإذاعية، ثم إلى المنصات الرقمية الحديثة مثل «الميمز» و«الكوميكس»، ما يعكس قدرة الفكاهة على التكيف المستمر مع تطورات العصر، مع الحفاظ على جوهرها النقدي والترفيهي في الوقت ذاته.

يخصص غنيمة جزءًا مهمًا من الكتاب للشعراء الفكاهيين، مثل بيرم التونسي، الذي جابه السلطة بقصائده الساخرة، ووزعها بنفسه على الناس، موضحًا كيف يمكن للفكاهة أن تكون أداة للتأثير على الرأي العام، ونقل النقد الاجتماعي والسياسي بطريقة ذكية ومؤثرة، كما يستعرض مساهمة الشعراء والفنانين الآخرين في نشر الفكاهة عبر الصحف والمجلات والكاريكاتير، ليصبح للضحك تأثير واسع على الجمهور، ووسيلة للتفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية.

من أبرز ما يميز الكتاب مقاربة غنيمة للفكاهة كظاهرة ثقافية واجتماعية، فهي لا تُفهم فقط كمتعة أو تسلية، بل كأداة لفهم الشخصية المصرية، وتحليل علاقاتها بالمجتمع والسلطة، ومتابعة تطوراتها عبر العصور. فالفكاهة هنا ليست مجرد رواية تاريخية، بل مشروع بحثي متكامل يدرس الضحك والسخرية كأداة للتعبير والمقاومة، وكجزء لا يتجزأ من الوعي الشعبي المصري.

إن كتاب غنيمة هو جزء من مشروع طموح وطويل المدى لتوثيق الفكاهة المصرية وفنونها، مشروع يتطلب متابعة دقيقة وتوسيعًا مستمرًا لمصادره، ويشمل دراسة المجلات، والصحف، والكاريكاتير، والنكت الشعبية، وصولًا إلى العصر الرقمي الحديث، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعي حاضنة للفكاهة بأنواعها المختلفة، ما يعكس التحولات المستمرة في المجتمع المصري وتكيف الفكاهة مع العصر.

جدير بالذكر أن مشروع غنيمة لا يزال مستمرًا، وأن كتابه «المضحكخانة» ليس نهاية المطاف، بل بداية لمزيد من الأبحاث والدراسات التي تستهدف توثيق الشخصية المصرية من خلال ضحكتها وسخريتها. كما يناقش الكتاب أسباب تراجع إصدار الكتب الساخرة في العصر الحديث، موضحًا أن الفكاهة المصرية تكيّفت مع التحولات الرقمية، فانتقلت إلى العالم الرقمي حيث تنتشر بسرعة، من خلال الميمز والكوميكس وغيرها من أشكال التعبير الفكاهي، مع التأكيد على أن هذه التحولات لم تقلل من قوة الفكاهة أو أهميتها الثقافية والاجتماعية.

يقدم الكتاب مادة غنية من الوثائق والمخطوطات النادرة، وقصص حياة الفنانين والفكاهيين الذين ساهموا في تشكيل ثقافة الضحك المصرية، ليؤكد أن الفكاهة ليست مجرد تسلية، بل أداة لفهم التاريخ والمجتمع والسياسة، وسلاح للتعبير عن الذكاء الشعبي والمقاومة الرمزية للظلم. كما يسلط الضوء على التنوع الكبير في أشكال الفكاهة، من النوادر الشعبية إلى المذكرات الساخرة، وصولًا إلى الصحافة والفنون البصرية الحديثة، ما يعكس القدرة المصرية على التكيف والتجدد مع مختلف العصور والأزمات.

يشير الكتاب إلى أهمية المقاهي والمجالس الثقافية في نشر الفكاهة، وكيف كانت الأماكن العامة متنفسًا للساخرين والفكاهيين، ومختبرًا لتجربة الأفكار الساخرة، وصولًا إلى دورها في بناء ذوق عام واستراتيجيات نقدية للتعامل مع السلطة والمجتمع. هذا التوثيق الشامل يجعل من الكتاب مرجعًا لا غنى عنه للباحثين والمهتمين بتاريخ الثقافة المصرية والفكاهة بشكل خاص.

يربط الكتاب بين الماضي والحاضر بطريقة تجعل القارئ يعي أن الفكاهة المصرية ليست مجرد حدث عابر، بل عنصر أصيل في الشخصية الوطنية، أداة لفهم التحديات الاجتماعية والسياسية، وسلاحًا ذكيًا في مواجهة الضغوط والمحن. كما يبرز كيف أن السخرية والضحك عبر التاريخ المصري كانت دائمًا طريقة للتعبير عن الوعي الشعبي، وتوظيف الذكاء الاجتماعي للتعامل مع الواقع اليومي.

في النهاية، يمثل كتاب «المضحكخانة» إضافة نوعية للمكتبة العربية، ويؤكد قدرة الباحث المصري على إعادة كتابة التاريخ بأسلوب مبتكر يجمع بين الدقة العلمية وروح المرح، مستفيدًا من المصادر النادرة والمخطوطات، ومسلطًا الضوء على الجوانب الإنسانية والاجتماعية والثقافية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر. إن مشروع محمد غنيمة، بدعم دار الرواق العريقة، يفتح آفاقًا جديدة لفهم الشخصية المصرية، ويؤكد على أن الضحك والسخرية جزء أصيل من تكوين الأمة، وأن الثقافة المصرية قادرة على التكيف والتجدد مع كل العصور.

"المضحكخانة" هو دعوة لكل المهتمين بالتاريخ والثقافة والفكاهة، لاستكشاف عمق شخصية المصري من خلال ضحكته وسخريته وذكائه، وهو بداية لمشاريع مستقبلية واعدة تستكمل هذا التوثيق الحيوي، وتضع حجر الأساس لفهم أوسع للشخصية المصرية من منظور مختلف، يجمع بين المرح والتحليل الاجتماعي والتاريخي، ويؤكد على الدور الحيوي للفكاهة في تشكيل وعي الأمة وثقافتها وهويتها.

بهذا، نجح الباحث والمؤرخ الكبير الأستاذ محمد غنيمة في تقديم كتاب موسوعي متكامل، يدرس تاريخ الفكاهة المصرية بعناية علمية، ويدعمه أسلوب سردي جذاب، ويضع القارئ في قلب الأحداث، ويربط بين الماضي والحاضر، ويؤسس لرؤية جديدة لفهم مصر من خلال مرآة الضحك والسخرية، مع التأكيد على أن هذا المشروع ليس له نهاية، وأن التاريخ المصري وما يحمله من ضحك وسخرية سيظل دائمًا مادة غنية للبحث والتأمل.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة