لن يكون اجتياح مدينة غزة آخر حيل نتنياهو لإدامة الحرب، والالتفاف على محاولات إنهائها. سيبقى غارقا فيها لشهور أو أسابيع؛ قبل أن يتفتق ذهنه عن بديل جديد، قد يقوده إلى العمل مجددا فى مناطق الجنوب والوسط عند رفح وخان يونس، أو رفع وتيرة التصعيد مع الحزب فى لبنان، واصطناع جولة جديدة مباشرة مع إيران.
وتظل سوريا مساحة مفتوحة رغم محاولات الوصول لاتفاق مع الجولانى وإدارته، كما أن الضفة الغربية ميدان مؤجل بحسب الأحوال، وفى إطار رؤية الائتلاف اليمينى لاحتواء الضغوط الدولية، والضغط الخانق على شرايين حل الدولتين.
انصرف عجوز تل أبيب المسعور عن الاستراتيجية منذ وقت طويل، ويكتفى بالتكتيك أداة للمناقلة بين ميادين القتال الساخنة، وإبقاء الساحات موصولة ببعضها ضمن نطاق محسوب، وبما لا يسمح بإشعالها جميعا فى اللحظة نفسها، ولا بتبريد إحداها بمعزل عن البقية.
وهو يعرف ما يريده تماما؛ لكنه لا يتوفر على وصفة الوصول إليه من أيسر السبل، ولا بالكيفية التى تُجنّبه الارتدادات الثقيلة من الداخل والخارج. صارت الحرب شخصية فعلا؛ إنما ما تزال وثيقة الصلة بالدولة فى بنيتها القاعدية، وأفكارها العدائية المتجذرة فى النفوس والمؤسسات.
لا أحد فى إسرائيل يملك تصورا وافيا عن الجولة الراهنة من الصراع. المُطالبون باستعادة الأسرى يضغطون من أجل التهدئة فى غزة، ولا يستنكفون ما يحدث على بقية الجبهات، بل ربما يُهلل فريق منهم لخطط الاستيطان وضم الأراضى غربى نهر الأردن، أو تطويق السلطة الوطنية وصولا لإزهاق ما تبقى من أنفاسها الذابلة.
الجنرالات مشغولون بالكُلفة الملقاة على عاتق الجيش ومعينه من المقاتلين وجنود الاحتياط؛ لكنهم يتفاخرون بمنجزات الشهور الماضية، ويُعدّون الخطط والاقتراحات لمزيد من جولات الاستعراض والتمدد الجغرافى. وحتى المعارضة تختصم الائتلاف الحاكم من زاوية أيديولوجية مصلحية؛ وإن كانت لا تختلف فعليا مع أو على كثير من سياساته المُفعلة بالحديد والنار على امتداد الإقليم.
لعلها ليست المرة الأولى؛ لكنها الأوضح والأشد فجاجة، على صعيد الالتقاء الجمعى وبأعلى نسبة إجماع، أو بالأحرى اختلافات بينية، فيما يخص المشهد الواسع ونُثار مكوناته القريبة والبعيدة.
لن تجد فى الشارع العبرى من يرفض العدوان بالكلية وعلى الإطلاق؛ إنما صار المجال العام خليطا من الأهواء والتمنيات، بين ناقد للحكومة فى جريمة وداعم لها فى غيرها، أو المحذر من تداعيات الانفلات فى الضفة فيما يحفز عليه فى اليمن والشام والجمهورية الإسلامية مثلا، المُستهجن للإبادة الجماعية بحق الغزيين على التوازى مع الصمت على التنكيل بالمقدسيين أو الترحيب بالاغتيالات الممنهجة.
قطيع عريض تختلف ذئابه فى الطرائد ووصفة الافتراس؛ لكنها جميعا تحض عليه وتمارسه باستمتاع عظيم، وما على «بيبى الماكر» إلا أن ينفذ من ثنايا التناقضات، ويُوظّف الرؤى المتصارعة ضد بعضها؛ فيفوز وحده بتنحية نقاط التضارب كلها، وتجميع حصيلة وافرة من مجموع الوحشيات الجزئية المستمدة من كل الأطياف والتيارات، والمخزونة تحت جِلد الصهيونى بالفطرة والتنشئة.
والقصد لا يذهب إلى التعميم طبعًا؛ لكننا إزاء كيان عسكرى طرأت له دولة، وجميع مواطنيها جنود حاليون أو سابقون؛ باستثناء الحريديين الذين يتفرغون لدراسة التوراة، ولو أمسكوا سلاحًا لقتلوا الأغيار جميعًا دون تفرقة.
الغضبة الشعبية مدفوعة بحسابات خاصة أهمها الأسرى، واعتراضات الساسة انتهازية تماما، والنُخب والمفكرون يميلون على الحكومة فى جانب ومعها فى بقية الجوانب، وكل تلك الهوامش الواردة على استحياء تؤكد القاعدة بدل أن تنفيها، وفى أحسن التصوّرات تُعبر عن بقايا ضمير آخذ فى الانحسار، وفى أسوأها تُلخص علاقة التخادُم وتوزيع الأدوار، بين انتداب طائفة للأعمال القذرة، وتوجيه غيرها لغَسل السمعة وذرّ الرماد فى العيون.
إسرائيل مُعمَّدة بالدم منذ نشأتها؛ ليس لأنها تأسّست على القتل والترويع فحسب، بل لأن حروبها تكاد أن تكون بعدد أيامها، ولا تخلو لحظة فى تاريخها القصير من جريمة أو مأساة مُتعمَّدة.
الآباء المؤسسون ألّفوا بين المُتناقضات جامعين الخطاب اليسارى إلى اليمينية المُتغطرسة فى أشد صورها قومية ونازيا وتهويدًا، والانتقالة من ائتلافات العمل فى ماباى ومعراخ إلى الليكود مع مناحم بيجين وإسحاق شامير، لم يُحدث فارقًا واضحًا فى السلوك. كانت عصابة وظلّت، وقادة دمويين وما بدّلوا تبديلاً.
لم تكُن العناوين السياسة حاكمة كثيرًا فى السابق، وربما إلى الآن. والدليل أن نسخة شارون من الليكود ليست كنسخة نتنياهو، وكلاهما نازى وقح؛ أقلّه لأن الأول كان مُحمّلاً بشىء من إرث البدايات، ومربوطا إلى الأسطورة الجمعية المُراد تخليقها من تراث السردية اليهودية وأوراق التلمود الصفراء.
ما سمح للجنرال فى تجربته المدنية بالتردد بين الإرهاب والتهدئة البراجماتية، كما فى فكّ الارتباط مع قطاع غزّة وبعض مستوطنات شمال الضفة، بينما الثانى الذى لم يُخبَز فى أفران الجيش أصلاً، ينطلق من نزعة صقورية لا تميل إلى الحوار؛ بل لا تعترف بالآخر من الأساس.
ولعلّ الفارق بين جيلين من حزب واحد فى الزمن. أو عنوان «جيل الصابرا» الذى وُلِد فى الأرض المسروقة، وتفتّح وعيه مع مفازات يونيو 1967 وما بعدها.
وتلك الرابطة التى تجمع نتنياهو بيمينه الدينى المُتطرف من أحزاب المستوطنين، ويساره من تيارات الوسّط كنفتالى بينيت ويائير لابيد، يبدو أنها تتغلّب على فروق الأيديولوجيا وتنوّع مواضعهم على مقياس القومية والدين، بحيث يُمكن القول إنهم أقرب لبعضهم مِمّا يجمع كل واحد منهم بأسلافه المباشرين، ويتصارعون على بلد غير الذى كان منذ الأربعينيات إلى واسطة التسعينيات.
وما فات لا ينطوى على مدح للسابقين، بأثر الاصطدام بانحطاط اللاحقين؛ بل يُميِّز بين حالتين عُموميتين ينخرط فيهما المجموع العريض، بغض النظر عن تنوعاته الثقافية والسياسية والعقائدية. فكأن إسرائيل الأولى كانت مهجوسة بالشرعية وتمتين جذورها فى بيئة غريبة؛ فيما الثانية مفتونة بالاستعراض على الآخرين والطعن فى شرعياتهم وتقطيع صلاتهم مع المكان والزمان.
أى أن القتلة الذين ساروا إلى كامب ديفيد، ووقعوا اتفاقيات سلام مع مصر والأردن وصولاً لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها، لا صلة لهم مع القتلة الحاليين الذين يُمارسون الإبادة الجماعية فى غزة، ويُقطّعون أوصال الجغرافيا والبلدان بحثًا عن قيادة الإقليم بالقوة، أو التسرُّب من نقاط ضعفه إلى أوهامهم عن «إسرائيل الكبرى».
إنه الفارق بين وضع الأسس لبناية وتعلية أدوارها، وبين الشتات الذى لا رابط عميق يجمع مكوناته، والبوتقة التى صهرت الإشكناز مع السفارديم والفلاشة وغيرهم، وصنعت سبيكة أقرب للتجانس من سابقتها؛ برغم كل ما يُمكن أن يُثار اليوم عن العنصرية والتفرقة والمباهاة بالأصول والثقافات.
وفى القلب من تلك الصورة المُركبة، ثمّة تركيب آخر لا يقل تعقيدًا. فإذا كان يصح القول إن خمسة عشر رئيسا للوزراء ظلّوا مشغولين بأسطورة إسرائيل المُستعادة غصبًا من مقبرة التاريخ؛ فقد بات نتنياهو مَعنيًّا بأسطورته الخاصة، وعاملاً عليها دون شريك لها أو مُنازع.
وذلك فضلا على أنه لا يضع المصلحة الوطنية فى اعتباره؛ إلا بقدر ما تُعينه على تثبيت نفسه «ملكًا لليهود»، واجتراح مسار مُغاير لكل ما سارت فيه الدولة منذ نشأتها، وبحيث لا يعود ما بعده كما كان قبلاً، أو مُنتميًا له بأية وشيجة قُربى أو خصيصة من خصائص الإنشاء.
عندما ذهب رابين إلى أوسلو؛ فغالب الظن أنه لم يكن أقل وطنية (بمعناها الإسرائيلى الجارح) من سابقيه ولاحقيه، ولا كان ينتوى أن يمنح الفلسطينيين شيئًا من الأساس.
اشترط إلغاء قرار الأمم المتحدة الصادر فى السبعينيات باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وانتزع اعترافًا بالدولة من أعدائها المباشرين، لقاء حُكم ذاتى محدود يتطلع أصحابه إلى توسعته والتدرّج فيه، ويتحضر مانحوه إلى الانقلاب عليه بعد استراحة مؤقتة لالتقاط الأنفاس وتقطيع الوقت وإعادة بناء الصورة.
السلام ليس آية فى التوراة، ولا ظلّ له فى التلمود وشروحات الحاخامات. يُذهَب إليه بانتهازية خالصة طمعًا فى مصلحة أكبر، وقد سمح فى جولاته السابقة لإسرائيل بالتجذُّر والنمو رأسيا؛ وإن حجّم أطماعها الأفقية.
ومن وقود التهدئة تطوّرت صناعيا واقتصاديا، وعزّزت قدراتها وعناصر قوّتها الشاملة، ووطّدت تحالفاتها مع العالم شرقًا وغربا؛ حتى أنها اجتذبت قوى تقليدية كانت على النقيض منها سابقًا، ولا مثال أبلغ مِمَّا يجمعها اليوم من رباط وثيق مع الهند نموذجا.
الصهاينة حيوانات جائعة دومًا؛ لكنهم عندما وازنوا بين البقاء فى مُطاردات بدائية مُرهقة، أو الانطلاق نحو التطور وإطاحة التوازنات القائمة، وتوسعة الفوارق بما لا يسمح باستدراكها لاحقا؛ انحازوا للاستراتيجى على حساب التكتيكى، ومكّنوا لأنفسهم فى إطار بناء السردية وتشبيكها مع القوى الكبرى، وامتلاك الفاعلية الكاملة موصولة بالرمزية الحضارية؛ أى التدليل على صيغة البلد الديمقراطى المُتقدّم فى محيط من الديكتاتوريات الرجعية المتخلفة.
ونتنياهو اليوم صورة مقلوبة لقادة الأمس، وما يفعله أنه يُعيد إسرائيل إلى زمن التأسيس، وربما ما قبله من حال العصابات الهُمّل. ليس لأنه يُفعِّل إمكاناته إلى مداها الأقصى والأقسى دون كابحٍ من عقلٍ وبصيرة؛ إنما لأنه يصرف على المكشوف من الرصيد الذى راكمه السابقون عليه، ويُعرّى الدولة العبرية من كل أكاذيبها المُلفّقة، ويُضحّى مختارًا بالهالة المعنوية لإثبات الفاعلية المادية، والتصريح الفجّ بالنزعة الامبراطورية المُهينة للإنسانية عمومًا، وليس لضحاياه المباشرين وحدهم.
لديه بندقية مُذخّرة، ورعاية أمريكية لا تهتز، ولن تنحرف عن الميثاقية الغليظة بين البلدين؛ لكنها يخسر يوميًّا فى المكانة والجدارة والاعتراف الضمنى بإسرائيل كأمّة بين أُمَم العصر. قادر على التقتيل والإرعاب وكَىّ الوعى، وعلى التمدُّد بعرض الخرائط، والتعريض بالدول والمجتمعات الآمنة.
لكنه يتحوّل فى نظر العالم من بلدٍ مارق إلى وحشٍ همجى، وهو التحوُّل الذى لا يُمكن قياسه، وتستحيل ترجمته موقفًا عمليًّا بالسياسة والقانون ولدى المؤسّسات الأممية؛ لكنه يشتغل بعُمق فى أذهان الأجيال الجديدة من كل الثقافات، ومن سيرتقون إلى مدارج الحُكم فى غضون سنوات أو عقود.
وإذا كانت يقترب الآن شيئًا فشيئًا من الحالة الهتلرية؛ فإنه لا يخفى نزوعه إلى درك أسفل كثيرًا من نازية الرايخ الثالث. إذ فى الحد الأدنى كانت ألمانيا بين الحربين العالميتين دولةً فى أزمة، وظلّت دولة وهى تنحدر إنسانيا وأخلاقيا، وفى هزائمها كما فى انتصاراتها.
أما هو فلا ينظر لإسرائيل باعتبارها دولة من الأساس، بل مُجرّد غلاف يُحوّط على الحالة العدوانية المُعادية للبشر جميعًا، ويُغطّيها جزئيًّا، ويُسبغ عليها صفات حداثيّة مُصطنعة ومُلفّقة؛ ليتسّر لها أن تسكن الحاضر البشرى، مُخبّئة ماضيها الميثولوجى وإرثها من الكراهية والاستعلاء وراء ظهرها وستار شرعيّتها الآخذة فى التآكل معنويًّا على الأقل.
لقد تطوّع بإعلان شعوره الدفين على الملأ؛ عندما وقف يقول إن إسرائيل تتعرّض لحصار مُمنهج من دولٍ شتّى، وعليها أن تبنى نفسها بمنطق الاكتفاء الذاتى، ولم يجد مثالاً يستعيره للتعبير عن تصوّره إلا التشبّه بـ«اسبرطة»؛ خالعًا على الدولة العبرية كل ما تتمثّله وتُمعن فى إنكاره من صفاتٍ، ومُقدّمًا دالّةً تاريخية ومعرفية لتفسير حاضر الصهيونية، واستقراء مستقبلها، ومعرفة كيف تنظر لنفسها والآخرين، وكيف تُريد أن تنعكس صورتها فى مراياهم أيضًا.
كانت اسبرطة دويلة بدائية عدوانية؛ وأنضج ما توصّلت إليه أن أعدّت دستورًا يُوطِّد طابعها العسكرى، ويُقعِّد لمنطقها الشمولى المتوحّش فى التربية والحُكم والتعدّى على الجوار. بقعة وثنية لا مُعتقد لها ولا ضمير، حاربت أثينا لمصلحة؛ ثم توافقت معها على مصلحة، وكانت سابقة على النازيين فى العنصرية الداخلية، وانتقاء العناصر الصالحة للقتال، مقابل إلقاء غير الصالحين من أعالى الجبال.
يُولَد الفرد ليكون قاتلا، ولا يكتسب صفة المواطنة وجدارة الحياة المدنية؛ إلا بعد أن يُطرَد خارج الأسوار، ويختبر الحفاء والعراء والتدرّب على السلب والنهب، ثم يكتسب قيمته بمقدار ما يمتلئ به صدره من كراهية وعنف، وما يُضيفه لنهر العائلة الاسبرطية من دماء الأغيار.
للمدينة الإغريقية سياقها التاريخى، وكانت بحسناتها وسوءاتها ابنة زمن له ظروفه ومقاييسه الخاصة، واستدعاؤها إلى اللحظة الراهنة يتخطّى التمثيل السطحى، إلى التعبير عن الهمجيّة الكامنة فى وعى نتنياهو وبيئته.
ولا تختلف أمثولة اسبرطة هُنا عن التوراة والتلمود، وعن أية حكاية تراثية تُفرَض على الحاضر بقهر وإمعانٍ فى الغطرسة والتوحّش؛ لأنها تقضى بهذا على كل المنضوين تحت لوائها؛ بأنهم اسبرطيّون باختيارهم ولو ادّعوا العكس، طالما يستحسنون الوصف ويُسلّمون للعقلية القادرة على إجراء تلك الإحالة دون استشعارٍ لفجاجتها وعارها، وبما تنطوى عليه من اعترافٍ بتردّياتٍ أحدث وأسوأ، كالشراكة فى دم المسيح مثلاً، أو خيانة المجتمعات التى سكنوها كلّها على طول التاريخ.
يقول نتنياهو من طَرَف خفىّ؛ إن الصفة اليهودية لا تعدو أن تكون غراءً لوصل المُنقطع بين أشتات اليهود المُستجلبين من شتات الأرض، مثلما كانت الرابطة الحربية بين الناس فى اسبرطة القديمة، وإنه لا قيمة للفرد فى ذاته؛ بل بصلاحيته لأن يكون ترسًا فى منظومة الإغارة وقضم الأرض وتقطيع أشلاء البشر. مع فارق أن اسبرطة كان لها دستور؛ بينما إسرائيل تتعثّر فى أوّليات صيغة الدولة، وتعيش من دون أوراق ثبوتية؛ إلا القوّة والتوحّش وانحياز الولايات المتحدة.
بإمكانه أن يرُد على القمّة العربية الإسلامية بإطلاق عمليته ضد مدينة غزّة فى الليلة نفسها، وبعد دقائق تقريبًا من إعلان بيانها الختامى.
لكنه ما تجرّأ على هذا؛ إلا لأن ترامب أرسل وزير خارجيته بالتزامن مع ملتقى الدوحة، ليُعلن رسالة دعم ومؤازرة صريحة لا تقبل التأويل. ولا حرج فى الانفلات أو رادع عنه؛ طالما أنه يُمكن أن يُرسل طائراته لتقصف قطر تحت سمع البيت الأبيض وبصره، ثم يكتفى بمرور ماركو روبيو بها فى طريقه من تل أبيب إلى لندن؛ ليُطيّب خاطرها ويدعوها إلى مواصلة جهود الوساطة.
وإذا كان الغزّيون وغيرهم من الضحايا معذورين بالضعف، والمنطقة كلّها ملجومة بالغطرسة الأمريكية؛ فإن الشارع العبرى لا عُذر لديه ولا لجام فى فمه. والصمت هُنا ليس تمريرًا اضطراريًّا؛ إنما شراكة كاملة فى الجُرم وقسمة لغنائمه.
وبعيدًا من الرومانسية الساذجة، حَسنة الظن بلا مُبرّر أو سابقة خبرة، ومن أريحية التفرقة بين الفاعل الأصلى والشريك المتضامن؛ فالإبادة واقعة على عاتق كل الإسرائيليين بالتساوى؛ لأن وحشية الحاكم ووقاحة الداعم؛ لا يقومان من دون قناعة الناخب، ومساحة الالتباس الاختيارية بين سلطة الشعب، والاكتفاء بالمسيرات الشكلية والهتافات الباهتة.
سارت بيئة الاحتلال باختيارها إلى ما هى عليه اليوم. منذ ولغت فى دم رابين، وكافأت الداعين لقتله بوضعهم فى مقاعد الإدارة.
الكُتّاب والأكاديميون وفعاليات المجتمع المدنى شهود زور، والشعب خزّان جنود دومًا، والساسة يُنحّون البنادق لكى لا تُعطّلهم عن لعبة الكراسى الموسيقية؛ ثم يمتشقونها بعدما يفوزون.
لُعبة ساذجة بالتواطؤ بين الجميع، ولا يُمكن افتراض أن من بينهم برىء أو شريف؛ فالأبرياء والشرفاء غادروها أو لم يسكنوا بيوتها المسروقة من الأساس.
نتنياهو لا ينتحر فرديًّا، ولا يقود الدولة إلى غير ما تُحبّ وترضى. ربما يُعبّر بوقاحة عن أسوأ ما فيها؛ لكنه فيها فعلاً، ومُتجذّر وعميم بين أهلها. يستحثّ الوقائع ويستبق الخطط العتيقة بنواياه الفائرة؛ إنما ليس طارئًا عليها ولا من خارج نسيجها، بل امتداد لحالة عُصابية وعِصابية تتسلّط على الجميع.
يُعبّر زعيم الليكود عن إسرائيل الحقيقية بأوضح صورة، ويخدم خصومها وضحاياها لو أحسنوا الاستثمار فى سياساته المُتبجّحة. لا سبيل للتغلّب عليه بالقوّة، ولا معنى لتفرقة جناياته عن بعضها والنظر فى كل واحدة بمعزلٍ عن الأخرى. كما لا قيمة لتجزئة التهمة ومُغازلة مُجتمعٍ مخبول عن آخره. إنهم يُصوّبون على الجميع؛ فيخسر المقاتل والمُسالم، وعلينا الردّ بالمثل، وتعليق الأجراس فى الرقاب الصهيونية، وداعميها والمتواطئين معها والصامتين عليها، كلهم دفعة واحدة ومن دون استثناء.