يشهد الشرق الأوسط اليوم تحولات جيوسياسية متسارعة تكاد تعيد رسم خريطة القوة والنفوذ في المنطقة. تصعيد عسكري عبر حدود دولية، ضربات جوية متفرقة، وعمليات استخباراتية تستهدف مواقع حساسة، كل ذلك يثير سيناريو “انتشار الصراع” ويضع الدول الكبرى في الإقليم أمام تحدي موازنة الردع مع تجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة. في قلب هذه المعادلة تقف مصر، قوة تاريخية وجامعة، تجمع بين دور الوسيط الدبلوماسي وبين سياسة أمنية رادعة تحفظ لها مكانة محورية في معادلات الإقليم.
الدور المصري لا يقتصر على الحضور الأمني، بل يتجسد في قدرة القاهرة على إدارة ملفات شائكة عجزت عنها قوى كبرى. ففي التاسع من سبتمبر 2025، نجحت مصر في إعادة استئناف التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، عبر وساطة دقيقة أثمرت اتفاقًا تقنيًا حال دون تصعيد أزمة نووية إقليمية. هذا النجاح لم يكن مجرد إنجاز دبلوماسي، بل شهادة على قدرة مصر على استثمار ثقلها السياسي لتثبيت الاستقرار ومنع تفجر أزمات عابرة للحدود.
التحرك المصري نحو توسيع التعاون مع تركيا، وفتح قنوات سياسية وأمنية مع إيران، يمثل خروجاً مدروساً عن قيد الاصطفافات الجامدة التي هيمنت على المنطقة لعقود. القاهرة لم تنخرط في تحالفات شكلية، بل وظّفت علاقاتها لبناء محور ردع مرن، يتيح لها إدارة الملفات الشائكة في سوريا وليبيا والسودان وغزة. نجاحها في رعاية اتفاق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد فشل قوى كبرى في ذلك، برهان على امتلاكها أوراقاً لا يملكها غيرها.
إقليميًا، تنسج القاهرة شبكة علاقات معقدة تتراوح بين التنسيق والتوتر. فالتقارب المصري-التركي في ملفات أمنية محددة، وفتح قنوات اتصال مع حماس والجهاد، يوجهان رسائل واضحة لإسرائيل بأن مصر تملك هامش حركة أوسع مما تتصور. في المقابل، يتسم موقف القاهرة بالحذر إزاء قضايا مثل الملف اليمني أو تصاعد نفوذ الحوثيين، وهو ما يشي باستراتيجية مرنة تحافظ على استقلال القرار المصري، وتتيح إمكانية تغيير المواقف عند أي مساس بالمصالح القومية. هذه السياسة المتوازنة تزيد من حساسية الحسابات الإسرائيلية وتجبرها على إعادة تقييم علاقتها بمصر، خصوصًا مع تراجع مستويات التنسيق الأمني مؤخرًا واتخاذ القاهرة إجراءات إدارية ودبلوماسية تُقرأ كإعادة ضبط لأسس العلاقة، لا كقطيعة نهائية.
العلاقة بين القاهرة وتل أبيب تمر بمرحلة توتر متنامٍ. تخفيض مستوى التنسيق الأمني، وتعليق اعتماد السفير، والتصريحات الصريحة برفض تهجير الفلسطينيين، كلها مؤشرات على أن مصر ترسم خطوطاً حمراء لا تقبل التجاوز. هذه السياسة لا تعني اندفاعاً نحو المواجهة، لكنها رسالة ردع واضحة: مصر قادرة على تعطيل المخططات الإسرائيلية متى استشعرت تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
على الضفة الأخرى، تسعى مصر إلى تعميق شراكاتها الدولية، مستفيدة من ثقلها الجيوسياسي. فإعلان الاتحاد الأوروبي عن قمة مع القاهرة في بروكسل في أكتوبر 2025 يمثل اعترافًا متجددًا بمكانة مصر كشريك استراتيجي في ملفات الطاقة والتجارة والهجرة، ويفتح أمامها مسارات اقتصادية جديدة تعزز قدرتها على مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية. هذه الشراكة الأوروبية ليست مجرد تعاون اقتصادي، بل امتداد لاستراتيجية مصرية أوسع توظف الاقتصاد كأداة قوة موازية للقوة العسكرية.
لهذا فإن الدعوة الأوروبية لعقد قمة مشتركة في بروكسل، ومشاركة مصر المتكررة في قمم العشرين، تعكس إدراكاً متزايداً في العواصم الكبرى أن القاهرة لم تعد شريكاً ثانوياً، بل لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه. هذه المكاسب الدبلوماسية تمنح مصر غطاءً سياسياً واقتصادياً يحصّن خياراتها الإقليمية، ويزيد من كلفة أي محاولة لعزلها أو تهميش دورها.
المؤسسة العسكرية المصرية تظل الضامن الأول لاستقرار الدولة وأمنها القومي. فالقاهرة تدرك منذ عقود أن صلابة الداخل مرهونة بقدرة الجيش على الردع والتصدي لأي تهديد خارجي. لذلك تستثمر مصر بشكل متواصل في تحديث قواتها وتطوير قدراتها الاستراتيجية، إدراكًا منها أن الوساطة الدبلوماسية لا تكون مؤثرة إلا حين تستند إلى قوة صلبة. وفي السياق ذاته، عززت القاهرة من قدراتها البحرية والجوية، خصوصًا في شرق المتوسط، حيث يشكل الغاز والطاقة محورًا جديدًا لصراع النفوذ. هذا التمركز العسكري يمنح مصر موقعًا متقدمًا في معادلة حماية الممرات البحرية وضمان أمن الطاقة العالمي.
إلى جانب ذلك، حققت مصر مكاسب اقتصادية مهمة خلال الأعوام الأخيرة، سواء عبر استقطاب استثمارات، أو تعزيز الإنتاج المحلي من الغاز والأسمدة، أو دعم استقرار العملة وانتعاش قطاع السياحة. هذه الإنجازات الاقتصادية ليست معزولة عن بعدها السياسي؛ إذ تُوظَّف كأوراق قوة في السياسة الخارجية، تمنح القاهرة مصداقية أكبر وقدرة أوسع على التأثير في ملفات الإقليم.
في المحصلة، تتحرك مصر على خطين متوازيين: دبلوماسية نشطة تسعى إلى احتواء الأزمات وتفادي تفجرها، وقوة عسكرية واقتصادية توفر الردع وتمنع المساس بالمصالح الوطنية. هذه الثنائية تمنح القاهرة موقعًا فريدًا في زمن يتسم بالاضطراب، لكنها في الوقت نفسه تضعها أمام تحديات مستمرة، خصوصًا مع سيولة التحالفات وتغير الحسابات الدولية.
إن ثبات الموقف المصري، القائم على حماية الأمن القومي وتوظيف المكاسب الاقتصادية والدبلوماسية في آن واحد، يجعل من القاهرة قوة لا يمكن تجاوزها في أي معادلة تخص مستقبل المنطقة. فهي ليست مجرد لاعب يراقب الأحداث، بل ركيزة رئيسية تعمل على ضبط إيقاع الصراع، وتحويل مساراته نحو الاستقرار كلما أمكن، مع إبقاء يدها الأخرى على زناد الردع، لتظل قادرة على حماية مصالحها في مواجهة أي سيناريو محتمل.
مصر لا تبحث عن مواجهة مفتوحة، لكنها تبني شبكة مصالح تكسر احتكار القرار من قبل قوى إقليمية ودولية. نجاح القاهرة في ملفات حساسة، وضبط الإيقاع في إقليم ملغم بقضايا مفخخة، يجعلها لاعباً لا يمكن تجاوزه — لكن ذلك يحتاج إدارة دقيقة لتفادي تدحرج الأزمة إلى صدام شامل.