منذ نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أصبح الشرق الأوسط ساحةً مركزية للصراع بين القوى الكبرى. التاريخ علّمنا أن المنطقة تدفع أثمانًا باهظة في زمن المواجهة، لكنها تدفع أثمانًا مضاعفة في زمن التفاهمات بين واشنطن وموسكو. واليوم، ومع اقتراب لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، ثم زيارة مرتقبة لترامب إلى موسكو، يعود السؤال: هل تحمل هذه التفاهمات ملحقًا سريًا يخص الشرق الأوسط؟
منذ فجر التاريخ، كان الشرق الأوسط قلب الصراعات الدولية، ليس بوصفه جغرافيا فقط، بل باعتباره مركز إنتاج النظم السياسية والاقتصادية ومصدر الشرعية الإمبراطورية. فمنذ زمن حضارة المصريين القدماء وحضارات وادي الرافدين وفارس، مرورًا بالحروب الفارسية–اليونانية، وغزوات التتار والصليبيين، وصولًا إلى الاستعمار البريطاني–الفرنسي، ظلّت هذه المنطقة حجر الزاوية في تشكيل النظام العالمي. قاعدة التاريخ هنا واضحة: أفول أي قوة عظمى غالبًا ما يبدأ من الشرق الأوسط، وصعود أي قوة كبرى يمر عبره
في التسعينات كوّنت تيارات المحافظين الجدد في واشنطن رؤية طويلة المدى لضمان تفوّق أميركي مستدام؛ رؤية أخذت أشكالًا مؤسسية عبر مبادرات فكرية وسياسية بمعالمها المعروفة التي تناولت ضرورة الحفاظ على القدرات الأمريكية وأن تكون قادرة على تشكيل موازين القوى في القرن القادم. هذه المجموعات الفكرية (التي تضمّدت في مؤسسات مثل PNAC) صاغت إطارًا تحليليًا يحتكم إلى مبدأ: تقليص مركزية الخصوم عبر إدارة الفوضى الإقليمية وتحويل بعض المناطق إلى ساحات ضغط تؤدي إلى استنزاف الخصم وإضعاف قدرته على المنازلة.
فمع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقع القطب الأوحد. في هذا السياق، اجتمع نخبة من المحافظين الجدد والمخططين الاستراتيجيين الأمريكيين في تسعينات القرن الماضي، لصياغة ما سُمّي بـ"مشروع القرن الأمريكي". كان الهدف المعلن هو ضمان الهيمنة الأمريكية حتى نهاية القرن الحادي والعشرين، لكن الهدف الجيوسياسي العميق كان تحييد الشرق الأوسط كمركز ثقل في النظام الدولي، وتحويله إلى ساحة فوضى مُدارة.
المشروع نصّ على حرمان أي قوة إقليمية – تقليدية أو ناشئة – من لعب دور مستقل، وضمان بقاء المنطقة مصدر أزمات تُصدَّر إلى خصوم واشنطن الرئيسيين: روسيا، الصين، والهند. الأداة لتحقيق ذلك كانت تفكيك الدول الوطنية.
لذلك نرى الخطة واضحة في مع منع أي قوة إقليمية – سواء تقليدية كـ مصر والعراق وسوريا وإيران وتركيا، أو صاعدة مثل دول الخليج – من فرض نفوذ مستقل. الوسيلة لتحقيق ذلك كانت واضحة: تفكيك الدول الوطنية وجيوشها، واستبدالها بميليشيات وحكومات وظيفية، وإبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم، بحيث تُنهب الموارد لصالح مراكز الصناعة في الغرب بأسعار زهيدة.
اعتمدت واشنطن على الجماعات الوظيفية، خصوصًا تيارات الإسلام السياسي، التي ورثتها من الإرث الاستعماري البريطاني. هذه الجماعات، التي نشأت برعاية مخابراتية منذ القرن التاسع عشر، كأداة لضرب الخصوم، من أفغانستان والشيشان إلى البوسنة، وتدرك أن هذه الورقة قابلة للتوظيف ضد الصين في تركستان الشرقية، وضد الهند وباكستان عبر كشمير.
هكذا، تحول "الشرق الأوسط الكبير" إلى خطة لترويض المنطقة وتحويلها من لاعب إلى ملعب. مع مطلع الألفية الجديدة، تحولت هذه الرؤية إلى تطبيق عملي. تحت لافتة "الحرب على الإرهاب"، جرى التدخل العسكري المباشر في أفغانستان والعراق، فيما تولت أدوات غير مباشرة تنفيذ سيناريو "الفوضى الخلاقة" و"الربيع العربي" لاحقًا. النتيجة كانت انهيار دول كبرى، وتفكك جيوش عريقة، وتحوّل الهلال الخصيب واليمن وليبيا إلى ساحات سيطرة ميليشياوية، في حين تمددت الفوضى حتى حواف شمال أفريقيا.
لكن القاهرة أفشلت محاولات إدراجها في خانة الدول المنهكة. فمنذ ثورة 30 يونيو 2013، وتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة، تبنت مصر سياسة دعم الدول الوطنية والجيوش، ومنع سقوط مزيد من العواصم في فوضى الميليشيات. وسعت إلى حل النزاعات الإقليمية ومنع استخدامها كورقة ضغط خارجية، بالتوازي مع تصدٍّ مباشر للوكلاء المحليين للمشاريع الغربية.
مع اندلاع حرب أوكرانيا (2022–)، تعرّضت روسيا لضغوط دولية هائلة دفعتها إلى ممارسة تراجعات تكتيكية وسياسية في مناطق نفوذ أخرى، وأوجدت منطقًا موازٍ للتفاوض مع واشنطن حول تسويات «كبرى» قد تهيئ إعادة رسم أمامية للنفوذ في القوقاز وغرب آسيا. في هذا السياق أعلن البيت الأبيض لعام 2025 عن لقاء معلن بين الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي في ألاسكا في 15 أغسطس 2025، لقاء يحمل دلالات تتجاوز أوكرانيا إلى احتمالات تقاسم نفوذ وترتيب جبهات إقليمية.
الصين لعبت دورًا أكثر مروّنة: علاقة اقتصادية وتصالحية مع معظم اللاعبين الإقليميين، وتحرك تكتيكي في ملفات حساسة. حيث تتحرك روسيا والصين في الشرق الأوسط لحماية مصالحهما قبل انهيار الوضع. التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 أوقف سقوط دمشق تسع سنوات إضافية، بينما دخلت الصين على خط الدعم العسكري لإيران في حرب يونيو 2025، وللباكستان في حربها مع الهند قبلها بشهر. لكن بوتين – في سعيه لإنهاء حرب أوكرانيا بأي ثمن – بدأ يفقد أوراقه الاستراتيجية، وباع حلفاءه واحدًا تلو الآخر، من أرمينيا إلى إيران وسوريا، دون أن يحصد نهاية للحرب.
زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ألاسكا للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ثم زيارة مرتقبة لترامب إلى موسكو بعد أشهر، ليست مجرد أحداث بروتوكولية، بل حلقة جديدة في صراع استقطاب دولي، حيث تتحرك التحالفات وتتبدل مواقع القوى، بينما يبقى الشرق الأوسط – وفي القلب منه مصر – ساحة اختبار للضغوط والمساومات، دون أن تخضع لإملاءات أو تفرط في سيادتها.
في هذا السياق، يكتسب اللقاء المرتقب بين ترامب وبوتين دلالة أبعد من مجرد إنهاء حرب أوكرانيا. فالمؤشرات تفيد بأن الصفقة المحتملة قد تشمل إعادة ترتيب القوقاز وآسيا الوسطى، وإحياء مشروع "العالم التركي" بغطاء عثماني سياسي، في مواجهة روسيا وإيران، بما قد يفتح جبهة استنزاف جديدة على تخومهما. وهنا يظهر الخطر: اتفاق القوتين العظميين على توزيع مناطق النفوذ غالبًا ما يأتي على حساب الأطراف الإقليمية، والشرق الأوسط تاريخيًا هو الخاسر الأكبر في مثل هذه التفاهمات.
في هذا السياق، تبرز مصر كلاعب يرفض الانجرار إلى دور الملعب. موقفها من قضية غزة نموذج لذلك: التزام كامل باتفاقيات المعابر والقوانين الدولية، ورفض لتحميلها مسؤولية أزمات صنعها الانقسام الفلسطيني الداخلي وتدخلات أطراف إقليمية. القاهرة حافظت على القضية الفلسطينية، بينما دفعت ثمنًا باهظًا من دماء أبنائها واقتصادها في أربع حروب كبرى، في حين أن كثيرًا من المزايدين لم يخسروا جنديًا واحدًا.
حتى في ملفات الطاقة، أثبتت القاهرة قدرتها على قلب الطاولة. صفقة الغاز الأخيرة مع إسرائيل لم تكن تنازلًا، بل تجسيدًا لقوة اقتصادية جديدة. بعد أزمة كهرباء العام الماضي، التي واجهتها مصر باستيراد الغاز المسال وضمان استقرار الإمدادات، أصبحت هي المنفذ الوحيد القادر على تسييل الغاز الإسرائيلي. العائد المتوقع يتجاوز 18 مليار دولار، في وقت لم تحرك فيه أي دولة عربية منتجة للغاز ساكنًا لمساندة مصر أثناء أزمتها.
اليوم، ومع تحولات موازين القوى بين موسكو وواشنطن، يبقى الشرق الأوسط محور التوازن العالمي، التجربة التاريخية من "مشروع القرن الأمريكي" وحتى اللحظة، تؤكد أن مصر، رغم العواصف، قادرة على الحفاظ على موقعها كلاعب مستقل، وعلى حماية ثوابتها الوطنية والأمن القومي، وسط لعبة أمم لا تعرف إلا منطق القوة والمصالح.