تغدو المشاركة الانتخابية مكونًا أصيلًا من ملامح المواطنة الواعية في المجتمعات التي تسعى لترسيخ دعائم الدولة الحديثة؛ إذ يعد الصوت الانتخابي تجسيدًا لانخراط المواطن في الشأن العام، وترجمة لوعيه بدوره في التأثير على مسار القرار الوطني، ومساهمته الفاعلة في صناعة المستقبل، ومن ثم فإن أهمية الانتخابات تتجلى في تحويلها إلى ثقافة متأصلة، تتغلغل في أعماق الوعي الجمعي، وتقوم على مسؤولية الاختيار ونضج القرار واستيعاب الأثر الممتد لكل صوت يدلى به، فالمواطنة الحقة تبنى على وعي واعٍ بالفعل السياسي، يرى في الانتخابات وسيلة لصون الحقوق وتحقيق التوازن وصياغة غد تشاركي ينتمي فيه المواطن لوطنه بالفعل.
ويكتمل الوعي الديمقراطي حين يدرك الإنسان أن مشاركته في الانتخابات وصوته أمانة ومسؤولية تمارس؛ فالمواطن الذي يختار بوعي ويحسن استخدام صوته الانتخابي يسهم في تشكيل خريطة السلطة وتوجه بوصلة السياسات العامة ويؤثر في أولويات التنمية ومصير التعليم ومصادر تمويل الصحة ومسارات العدالة الاجتماعية، وبالتالي تصبح ورقة الاقتراع أداة تحول سياسي واقتصادي وجسرًا نحو التمكين الجماعي وقوة دافعة نحو وطن يبنى بالإرادة الحرة والتعبير الصادق عن المصلحة العامة.
وتمثل الانتخابات لحظة وعي وطني، تتجلى فيها قدرة الفرد على ترجيح كفة المصلحة العليا على نوازع الانفعال أو الاصطفاف الأعمى، وترسيخ ثقافة المساءلة والشفافية في إدارة الشأن العام، ويصل المواطن لتبني قناعة بأن الصوت الانتخابي موقف أخلاقي وخيار وطني، وتجسيد للمواطنة الفاعلة الحقة، وبهذا فإن المشاركة الانتخابية عي البداية الحقيقية للفعل الديمقراطي، وبها يبدأ الارتقاء بالوطن من صناديق الاقتراع، ويمتد إلى ميادين العمل والإنتاج والالتزام بالقانون، ويصبح كل صوت خطوة نحو بناء الدولة على أسس التشاركية والشفافية والمساءلة.
وتعد تنمية الوعي الانتخابي ضرورة دائمة ومسارًا مستدامًا، يبنى على أسس تربوية وثقافية وإعلامية متكاملة، تسهم في ترسيخ قيم المشاركة الفاعلة، وتعزيز الإحساس بالمسؤولية الوطنية، فالتربية تعمق الوعي بالمواطنة من خلال غرس مفاهيم الانتماء والمسؤولية وتزرع في الطالب احترام الاختلاف، وروح المشاركة، ومهارات الحوار والتفكير النقدي وتهيئه ليغدو مواطنًا مسؤولًا يدرك قيمة صوته وموقعه في الشأن العام، والثقافة تفتح آفاق الفكر التأملي النقدي والاختيار الحر، والإعلام يضيء المجال العام بالمعلومة الرصينة والنقاش الواعي والشفافية، ويوسع أفق التنوع، ويشجع على النقاش المستنير، ويسهم بدور محوري في تشكيل رأي عام واع ومتزن.
ويعد الوعي الانتخابي حصيلة تراكمية لمنظومة اجتماعية وثقافية متكاملة، تدفع بالمواطن إلى إدراك ذاته كعنصر فاعل في بناء وطنه، وصانع لمساره السياسي والإنساني، ويتطلب بناء إدراك مجتمعي ناضج بمفاهيم المشاركة السياسية الواعية، بوصفها أحد أركان المواطنة الفاعلة وتضافر هذه الجهود، لترسيخ الانتخاب كثقافة مدنية وممارسة حضارية تجسد نضج المواطن ووعيه بدوره في صياغة مستقبل وطنه، والمشاركة في توجيه بوصلة القرار العام نحو ما يخدم الصالح المشترك ويحقق التنمية والعدالة.
وتبدأ المواطنة الفاعلة من إيمان الفرد بأنه شريك أصيل في صياغة القرار وتوجيه المسار العام، ويتجلى هذا الإيمان في المشاركة الانتخابية الواعية إذ لا يعقل أن يدعي المواطن فاعليته في الشأن العام وهو يعزف عن التصويت أو يستهين بخطورة اختياره، فالمشاركة تبدأ من الإدلاء بالصوت وتمتد إلى المتابعة والمساءلة، والتفاعل مع السياسات العامة، والمساهمة في تشكيل وعي جمعي ناضج، فهي سلوك ورؤية متكاملة تعبر عن نضج الديمقراطية وجدية الانتماء.
وكلما اتسعت دائرة المشاركة الانتخابية، تعزز الاستقرار السياسي وتكاملت فرص التنمية المستدامة، فالسياسات التي تنبثق عن إرادة شعبية واسعة تكون أكثر تمثيلًا لمصالح المواطنين، وأقرب إلى أولوياتهم، وأكثر قبولًا في الوجدان العام، مما يمنحها شرعية مجتمعية وقدرة أعلى على الصمود في وجه التقلبات والأزمات، وتكمن أهمية تعزيز ثقافة المشاركة الانتخابية في أنها تخدم الديمقراطية كقيمة، والدولة ككيان مؤسسي وتعزز مناعة الدولة في إدارة التعدد، واستيعاب التنوع، واحتضان الاختلاف، بما يضمن ترسيخ التماسك الاجتماعي وتحقيق تنمية متوازنة تُراعي كافة الفئات والأقاليم.
ونؤكد إن بناء ثقافة انتخابية راسخة استثمار في بناء الإنسان والدولة، فكل مواطن واعٍ بقيمة صوته، مؤمن بجدوى مشاركته، هو شريك حقيقي في صناعة الحاضر وصياغة المستقبل، والمجتمع الذي يربي أبناءه على أن الاقتراع مسؤولية وطنية، هو مجتمع يراكم الوعي السياسي، ويحصن تجربته الديمقراطية، ويغرس جذور المواطنة الناضجة التي تعبر عن نفسها كلما دعيت إلى المشاركة وتستجيب بنداء العقل وفي وقت تتسارع فيه التحديات، وتتشابك فيه التحولات تصبح الحاجة ماسة إلى مواطن يمتلك وعيًا بصيرًا، يصوت بالعقل والضمير ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فالديمقراطية طريق طويل من الوعي والاختيار والمساءلة وكل صوت يدلى به عن قناعة هو لبنة صلبة في جدار الدولة القوية، العادلة، والمستقرة.