مرّت علىّ قبل سنوات حكاية عن تجربة داخل مدرج جامعى، عمد فيها الأستاذ إلى وضع طلابه فى صف طويل، وطلب من أولهم أن يهمس بجملة فى أذن الثانى، وهكذا إلى آخر طالب. وعند الختام، أشار بأن يجهر الأول بما قال، والأخير بما سمع؛ وكانت المفاجأة أن الجملتين مختلفتان تماما عن بعضهما، ويكاد لا يجمعهما رابط فى المبنى أو المعنى.
إنها مشكلة اتساع حلقات التداول وتعدد الوسطاء، التى تفرض على الساعين لضبط الأسواق اختزال تلك الحلقة الطويلة بما يضمن وصول السلعة من المنتج للمستهلك بأقصر طريق ممكنة. قياس مع الفارق طبعا؛ لكنه صالح لإنتاج الدلالة وإيضاح الفكرة المقصودة.
وفى الحديث النبوى، يعرف المختصون بالأسانيد وعلم الرجال مقدار الفارق بين العنعنة والسماع المباشر، وأثر كل منهما على اتصال السند أو احتمالية انقطاعه. إذ كلما تعددت الحلقات الوسيطة يخفت وهج الرسالة، وتهتز دقتها بأثر الذاكرة الشخصية أو اختلاف مستويات الفهم والاستيعاب.
فاللغة ليست محايدة تماما، ولا يتطابق المعنيان للمفردة الواحدة فى ذهنى القائل والسامع، كما أن الانحراف المفاهيمى للخطاب مهما بدا بسيطا، ينعكس على السلوك لاحقا، وتتسع الهوّة بينهما بكثافة التداول وتعدد العقول. ولا سبيل أبدا للصورة المثالية؛ بأن يمر المرسل على الآذان جميعا بالتتابع، لا سيما مع قضايا عمومية فى مجال عام شديد الاتساع؛ إنما ما لا يُدرَك كله لا يُترك جُلّه، وبين كل باقة احتمالات ثمة خيار أفضل، أقل فى سلبياته وأعلى كثيرا فى الإيجابيات.
ومناسبة الكلام هنا، ما كان من اجتماع رئيس الوزراء قبل يومين، لبحث الآليات العملية لإنفاذ توجيهات الرئيس السيسى بشأن تطوير الإعلام، ووضع خارطة طريق عملية وموضوعية لإنجاز المهمة، بشراكة موسعة للمعنيين بالملف، واعتماد على الخبراء والمختصين من كل التوجهات والأجيال.
ما يتطلب بالضرورة البحث عن الوصفة الأمثل لإشراك أكبر قدر من القادرين، دون التخلى عن ضرورة وجود قلب صلب لإدارة العملية الإصلاحية، وعقل ناظم للمداولات والاستخلاصات النهائية، بما لا يتغافل عن تحقيق الضبط المطلوب، ولا يجور على الانفتاح الواجب، وضمان أكبر هامش تمثيلى يثرى الحوار، ويغنيه بالأطروحات والمقترحات والبدائل الإيجابية الصالحة للتطبيق.
ولا شك مطلقا فى جدية الحكومة على صعيد تنفيذ التكليفات الرئاسية؛ إنما لا غضاضة أيضا فى الإشارة إلى أنها لم تُبادر بالأمر، ولا كانت صاحبة الخطوة الأولى على طريق إثارة الموضوع وعرضه على طاولة البحث والإجراء. والقصد أنها ربما لم تستشعر مقدار الحاجة للتطوير أصلا، وما رأت ضرورة فى إخضاع الإعلام لتلك العملية الاستكشافية والعلاجية، إلا بعدما تصدّى لها رئيس الجمهورية ووضعها فى عُهدتها.
وهو ما يعنى أن محددات اشتباكها مع الموضوع مستعارة من خارجها، وليست نابعة من الداخل، وستتحدد كفاءة التناول بمقدار ما وقر فى وعيها من رسائل القيادة السياسية، أو تنفتح عليه بالاستقراء والمشاهدات الخاصة، ما لم تُرفَد بمزيد من الرؤى والمراجعات المستقلة أو المحايدة، ومن ذوى الشأن المباشر وغيرهم من المتصلين بالصنعة الإعلامية، أو المتعرضين لمنتوجها يوميا بالتلقى المُجرّد أو العلاقة العضوية مع آلية العمل ومضامين العملية الاتصالية.
والرئيس فى لقائه المشار إليه سلفا، اختص الهيئات الإعلامية الثلاث بالحوار والتكليف، ومن فوقها المظلة التنفيذية ممثلة فى مجلس الوزراء كجهة ولاية واختصاص. لكن المهام المنوطة بتلك المجموعة تتجاوزها إلى جهات أخرى عديدة، وتفرض عليها بالكفاية والكفاءة معا، أن توسّع قوس رؤيتها بما يشمل كل المشبوكين معها فى جديلة التكليف، والقادرين على معالجة محاوره من زوايا أكثر تنوعا وشمولا، وبما يحفظ لفكرة التطوير أن تكون ورشة جماعية تعبر عن باقة المصالح والاهتمامات بكاملها، ولا ينوب فيها طرف عن آخر؛ لئلا تتسع التناقضات أو يخرج المنجز الأخير مُبتسرا وعاجزا عن الإقناع والإشباع وضمان الاستدامة.
ولا مصادرة على الإطلاق والحكومة فى بادئة الاضطلاع بالمهمة، وتستقرئ أبعادها ونطاق التعاطى معها، وطبيعة المعنيين بالمسألة والمشمولين بخطة العمل عليها. لكن التحسُّب دائما من أن المقدمات تشى بالنتائج، وما يبدأ كبيرا أو صغيرا قد يظل على حاله إلى المنتهى.
وإذا كانت المجموعة نفسها قد تجمّعت فى الرئاسة قبل أيام، وجمعتها فى الغالب حوارات جانبية استباقية أو لاحقة، فربما كان يتوجب أن يكون اللقاء التالى موسّعا بما يشمل أقرب الكيانات الاعتبارية للملف وأسئلة التطوير؛ لا سيما أنه بحسب بيان الحكومة عن الاجتماع، كان لبحث التكليف، وآلية وضع خارطة الطريق، ومحاور العمل المكافئة لعناصر التوجيه الرئاسى، وكلها بالضرورة تحت سقف الغاية الاستراتيجية، وتحتمل التوسع والتفصيل وإعادة تكييف التكتيكات، وربما إضافة مزيد من النقاط غير الواردة على وجه التحديد فى خطاب الرئاسة المُجمَل.
والحال؛ أن المطالبة بالتطوير تعبّر بلا مواربة عن افتقاده، وتؤشر على أن الإعلام من حيث كونه ملفا حيويا، وموضوع أمن قومى بجدارة، ليس على الحالة النموذجية التى يجب أن يكونها، أو يقتدر عليها، وأن بإمكانه أن يُقدّم ما هو أفضل.
أى أن فتح الملف يتولّد عن احتياج لا رفاهية، وينُمّ عن استشعار لدى أعلى مستويات السلطة لعِظَم الضغوط والتحديات، وقصور الأدوات الحالية عن الاضطلاع بالأدوار الواجبة، وضرورة النظر فى الفلسفة والأجندة ومحركات القطاع، بدءا من إعادة بناء السردية الوطنية، وإلى المردود المادى والمعنوى وواقع نموذجه الاقتصادى، مرورا بالرقابة والمساءلة والحقوق والالتزامات، على الدولة كما على المؤسسات الإعلامية، وعليهما معا إزاء الجمهور، بوصفه أهم حلقات العملية الاتصالية وغايتها الدائمة.
ما تزال الصحافة «سلطة رابعة» فى وعى البعض، وبعيدًا من تثبيت الصفة بنص أو غيابها عنه؛ فلا مراء فى أن الإعلام عين للإدارة وعليها، ويد للمجتمع ونائب عنه. وما يضطلع به يشقُّ على الجهات التنفيذية بكل ما لديها من مستشارين ومُتحدّثين وإدارات اتصال.
ومن حيث الدور والأهمية؛ فإنه لا يُمكن أن ينفصل عن استراتيجية الدولة، وفلسفتها فى الحُكم، وتصوّرها عن طبيعة العلاقات وتوازناتها فى المجال العام؛ ولأجل أن ينجز أدواره بكفاءة يتوجّب أن تكون محلّ اتفاق وتنظيم، وأن تتواضع عليها كل الأطراف بموضوعية واستقامة خالصة.
والرئيس من جهة أنه رأس السلطة التنفيذية؛ فإنه يُدير المنظومة بها، وينفذ من خلالها إلى أرجاء المجال العام. وعليه؛ فإن اجتماعه معها وتكليفها بمهمّة التطوير، إنابة لا تلزيم، بمعنى أنه يُفوّضها فى مسألة الرعاية والتنظيم والإشراف على تلاقى الرؤى والتداول فيها بشراكة مع كل الأطياف، ولا يعهد إليها بإنجاز المُتطلّبات وحدها، أو التحكّم الكامل فيها، بل يضعها فى موضع المُيسّر وقناة الاتصال، وعليها أن تُترجَم تلك النظرة فى الخطاب والممارسة.
وبينما يُمكن استيعاب أن تكون فى حاجة إلى جلسة خاصة، وأن تُناقش الموضوعات بينيًّا قبل طرحها على العامّة والمَعنيِّين جميعًا؛ فإن هذا يتطلّب أن يُعقِّب رئيس الوزراء على اجتماع الاثنين الماضى، بآخر يكون موسّعًا وأكثر تعبيرًا عن طبيعة البيئة الإعلامية والمنشغلين بها.
بمعنى ألا يُوكِلَ موضوع الاتصال بالنقابات والكيانات الفنية والأكاديمية وغيرها للهيئات الإعلامية حصرًا، خالقًا حلقة وساطة جديدة؛ إنما أن يفتح لهم باب مكتبه فى لقاء مباشر، وأن يسمعوا منه لا عنه، وبما يضمن أن تصل إليهم الرسالة الرئاسية بحذافيرها، وعلى مقصودها السليم تماما.
وأتصوّر أن تكون الدعوة مُوجّهة لنقابتى الصحفيين والإعلاميين، وأقسام الإعلام فى الجامعات والمعاهد المتخصصة، والمراكز البحثية المعنية بالملف، والخبراء من ذوى القامة العالية، وحتى أمانة الحوار الوطنى، باعتبارها طرفًا أصيلاً فى عملية الإصلاح التى أطلقها رئيس الجمهورية قبل ثلاث سنوات، وما تزال مُتّصلة، ويقع الإعلام فى صُلب موضوعاتها بالأصالة، أو لأنها شريك فاعل فى بقيّة الملفات والموضوعات، من السياسة للاقتصاد والأمن القومى وغيرها من قضايا.
الوجه البسيط لتطوير الإعلام يقود إلى حال المؤسسات، ونوعية المضامين والمُعالجات، وما يقع من نزاع أو تناقضات مع السلطة التنفيذية وبقيّة شركاء المجال العام.
إنما الجوهر يتّسع كثيرا عن هذا؛ ليشمل التعليم والتثقيف والتربية والخطاب الدينى، ومسائل الحرية والالتزام وتداول المعلومات، وأنماط الملكية وعلاقتها بالتحرير، والنموذج الاقتصادى وما يقع عليه من ضغوط السوق وتبدّل الوسائل والأقنية، وطبيعة العلاقة بوسائط الاتصال الحديثة، والمنظومة التشريعية الحاكمة للعمل والمساءلة، وحصيلة العملية كلها على صعيد الفاعلية والعوائد.
والعناوين المُنمّقة على أهميتها؛ فإنها لا تصلح وحدها لإرساء الركائز الحاملة لمشروع التطوير، أو ما يُفتَتح به العمل عليه عبر خارطة طريق نظامية، أو مسار مُتدرّج يشتغل على الإصلاح بمنطق التجربة والخطأ والقياس.
إذ لا يكفى الحديث عن الاستعانة بالخبراء دون تحديد المعايير، وهامش الاستفادة، ومدى الإلزام والتخيير فى الانتقاء من تلك الرؤى واعتمادها، كما لا يصحّ أن يكون الكلام عن تمكين الكوادر الشابة عامًّا ومُطلقًا، بمعزلٍ عن اعتبارات الكفاءة والصلاحية وآليات التقييم والتقويم، ومساءلة السابقين أوّلاً وإقامة الحجّة عليهم، دونما انصرافٍ عن الحاجة الدائمة للخبرة، ولا تعالٍ عن واقعية الحاجة لتجديد الدماء، والتيقّن إلى أنها لن تكون مثالية ومُنجزة من المرّة الأولى أبدا.
والفهم السليم للخارطة المُشار بها رئاسيًّا؛ أن تنطوى على رفع مساحى شامل لحال السوق الراهنة، ونقاط قوتها أو مواطن ضعفها، ليُصار منها إلى بناء تصوّر واسع عن الضروريات العاجلة، وما يُمكن أن يُرجأ أو نتدرج فيه صعودًا، على شرط أن تكون المعالجة محيطة بكل الجوانب، ومشتملة على عمق النظر ودقة الوصف وموضوعية الاقتراح، وبلا تزيُّد أو مُجاملة وتجميل، وباعترافٍ تستبق به الحكومة غيرها بالواقع القائم، وما عليها من أعباء والتزامات لجهة الإصلاح والتحسين، ليكون الكلام قرينة على التجرُّد أولاً، وعلى التكافؤ والعدالة والاعتدال فيما تضطلع به أو تطلبه من الآخرين.
كل ما سِيق إلى اليوم يُجمِلُ ولا يُفصِّل، ويتطلّب عملاً دؤوبا على تفكيك الكُلّيات لعناصرها البسيطة، واجتراح الوسائل الكفيلة بالوصول إلى الأهداف من أيسر السُّبل وأسلمها.
والمُشترك بين بيانى الرئاسة والحكومة، الحديث مثلا عن التدريب والتأهيل وصقل المهارات، وهو أمر يتعيّن أن تتداخل فيه الجامعات والمؤسسات والنقابات أيضًا، كما فى مسألة إتاحة المعلومات تغليبًا للدقة ودرءًا للشائعات، بما تتطلّبه من بحث فى قانون حرية تداول المعلومات أو غيرها من آليات تشريعية وإجرائية.
وأهمية أن يجتمع رئيس الوزراء بالمَعنيِّين؛ ليست فى نقل الرسالة دقيقةً ومنضبطة فحسب، بل فى انتقال التكليف الرئاسى إليهم أيضًا؛ لتعمل كل جهة بمفردها على إعداد تصوّرها الخاص، تميهدًا لتشاركه مع الآخرين والشراكة فى تصوّراتهم، وأن ينطلق الجميع من حصيلة فنيّة ومعرفية مُعتبرة، لا من الفراغ أو الأحلام والمثاليات التى لا تتقيّد بالواقع، ولا تُراعى المواءمة والتناسُب مع الظروف والمقتضيات.
وأتصوّر أن يكون اللقاء المُقترح سريعًا، وموسّعًا؛ لإبقاء الأمور فى نصابها تحت سقف الشراكة والمصلحة العامة، وليس الاحتكام الاضطرارى إلى رؤية الحكومة ومُخرجات حوارها الخاص. لا سيّما أن الهيئات الإعلامية ليست على درجة واحدة، وإذا كانت للمجلس الأعلى صفة تنظيمية عمومية؛ فإن الهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام تنوبان عن الإدارة التنفيذية بصورة حصرية، وأقرب إلى المُمثّل عن المالك فى نطاق بالغ المحدودية، ينصرف حصرًا إلى ماسبيرو والمؤسسات الصحفية القومية، ولا يشمل القنوات والصحف والمواقع الخاصة، فضلا عن الوسائط المُستحدثة التى لا تنتظم ضمن المسارين، وتخرج عمليا عن ولاية الدولة والنقابات وجهات الإدارة؛ وإن ظلت نظريًّا تحت سقف القوانين والأُطر التنظيمية.
يجب أن تكون المؤسسات الخاصة شريكا منذ اللحظة الأولى، والنقابات المهنية أيضًا، وأن تُدعى جهات الخبرة والمراكز البحثية لورشة العمل على الأسس والآليات الناظمة، وألّا يُستَثنى الحوار الوطنى بما لديه من تجربة وخبرات، وبما يُتيحه من مظلّة جامعة لكل التيارات والرؤى، من التداول فى المسألة من منظور أوسع، وبمؤاخاة ضرورية بين مصالح مُنتجى المضامين الإعلامية ومُتلقّيها والممسوسين المباشرين بها، بجانب أن تُدار من خلاله جلسات استماع وحوارات مجتمعية موسّعة، أو عبر أى وسيط وآخر، وأن تُتاح آلية لتلقّى الملاحظات والمُقترحات من العموم غير المُنظّمين؛ أكانوا من الجمهور أم من ذوى الاختصاص.
ما يتطلّب إصلاحا تشريعيًّا يُمكن أن يُنجَز من خلال الحكومة، عبر اقتراح مشاريع قوانين وإرسالها للبرلمان، وإن امتدّ مجال البحث لما بعد الانتخابات النيابية فيُمكن أن ينخرط فيه النواب ولجانهم النوعية المُختصّة.
النقابات والجامعات والشركات العاملة فى القطاع تنوب عن نفسها، وتمكين الشباب الموضوع فى صُلب المهام؛ يتطلّب البدء أوّلاً بتمكينهم من العمل داخل الورشة الإصلاحية، وإفساح مجال لهم أن يُشاركوا فى النقاش والمقترحات ووضع الأيدى على الثغرات وعوامل القصور، والإدلاء بما لديهم من أفكار لعلاجها، وما يتناسَبُ مع السياق الاتصالى المُتسارع فى تغيّراته، ولا شكّ فى أنهم أوثق صِلة به وبالتغيرات من الكبار والشيوخ.
إن الرئاسة ما تصدّت للمسألة إلا عن استشعارٍ جاد لأهميتها، ومن هذا المُنطلق فإنها تتجاوز حدّ العمل الروتينى، واستسهال التقليب فى خفايا الصناديق القديمة، إلا البحث عن الجديد والمفارق وغير الاعتيادى، وشحذ الخيال وإثارته بما يستجيب لتحديات اللحظة، ويستشرف أفق التطورات المُتلاحقة؛ لكى لا نكون فى حاجة للعودة إلى ذات الملف بعد شهور أو عِدّة سنوات. ما يعنى أنها مهمّة وطنية حقيقية للحاضر والمستقبل، وأنها تتخطّى مجال الحكومة، ويجب ألا تنحصر فيها أو فى الهيئات الإعلامية وحدها.
لم يعُد الإعلام استثمارًا مُربحًا، وعوائده المعنوية آخذة فى التضاؤل مع تقادم أدواته، وانفلات المنصات الرقمية بنماذجها الاتصالية المُستحدَثة.
الحرية والانفتاح باب كل شىء؛ إنما الإتقان والكفاءة والتجويد لا تقلّ أهمية أيضًا، كما استيفاء الحقوق الضائعة لدى شركات التكنولوجيا، وضبط المنافسة غير العادلة مع المنصّات غير المُقيّدة بالضوابط المهنية، أو فوضى مُنتجى المحتوى من الأفراد، وما يشيع من افتتان بالذيوع والرواج ومُخاطبة الغرائز والضغط على شهوات التلصص واجتراح الخصوصية والتسخين، وكل ما يُشبه ذلك من أردأ مفاتيح الاتصال ومُخاطبة الجمهور.
التطوير بهذا المفهوم يبدأ من ضبط القائم، ثم الانتقال إلى تحسينه وترقية أدائه وفاعليته، ومن إعادة النظر للإعلام بوصفه شريكًا حقيقيًّا لا مفرّ من التصالح معها، واستثماره وإفادته والاستفادة منه.
والاستدلال على القصور والتشوّهات لا يحتاج لكثير من الجهد؛ فالرسالة الرئاسية أقامت الحجّة على حاجتنا للإصلاح فعلاً، والاستطلاع وقياسات الرأى والمردود توفّر نتائج حاسمة فى هذا الشأن، وارتباك بعض المؤسسات أو انفلات غيرها يتجلّى فى المضامين كما فى الأعباء والحسابات الختامية. نحتاج لاستدراك ما فات على وجه السرعة، واستشراف الآتى بديناميكية وتأنٍّ، على معنى التعمّق والإتقان وإحسان الصنعة، وليس الإرجاء وإرخاء حبل الحلول إلى مدى بعيد.
وأتصوّر أن يُدعى إلى مؤتمر افتتاحى موسّع تحت مظلّة التكليف الرئاسى، يُعبّر بالصورة والأثر عن الشراكة الجماعية بين كل المَعنيِّين، ويُصَار منه إلى محاور وورش عمل على التوازى، وإلى مُخٍّ يضع الأسس العمومية الراسخة والمُستدامة، وأطراف تتداول فى الفروع والتفاصيل، وبما لا يخلط الخاص بالعام، أو يُغلّب الربح على الأثر، أو الكَم على الكيف.
كما أتصور أن يحضر الخبراء بجانب الشباب، والمُلّاك مع العاملين والمُستهلكين، والجمهور بالأصالة أو من خلال مُمثّلين نوعيين من النقابات ومكوّنات المجتمع المدنى ووزارات التعليم والتعليم العالى والشباب وغيرها، بحيث تُتاح أوسع مشاركة مُمكنة، وتنتظم فى خطوط متصلة ومُتقاطعة، تتكامل ولا يُعطّل بعضها بعضًا.
ومن تلك الديمقراطية الإجرائية العريضة إلى لجنة تأسيسية تستخلص كل المُدركات والإفادات، وتُنظّمها فى عناوين ومسارات بعد الفرز والانتقاء، وتعهد بها إلى لجان نوعية تُحدِّد ما يتعيّن إنجازه بالإجراءات الحالّة، أو بالخطط بعيدة المدى، وما يحتاج لضبط بالتشريع، وحدود الأدوار والمسؤوليات العملية فى التدريب والتأهيل وقياس الأثر ومُساءلة المنوط بهم ذلك عن القصور وبطء النتائج.
والأهم أن تُسارع الحكومة إلى إرساء الركائز، وتحديد المسارات وتنظيمها، بما يُهيكِل المهام والأدوار ويضبطها بالأهداف والنتائج المُتوخّاة، ولا يجعلها عُرضة للارتباك مع الدخول فى الممارسة العملية، أو مع أى تبدّل للوجوه والمُشاركين، أو تغيّر مُحتمَل فى تركيبة السلطة التنفيذية.
تُرِك الإعلام طويلاً، وربما لعقودٍ أعمتنا فيها الفوضى والسيولة قبل يناير 2011 وبعدها عن المشاكل والأزمات، والعودة إليه ينبغى أن تكون على قدر الحاجة والتحديات، وبصفاء ذهن وبصيرة تُلملم المُبعثَر منه وتضبط المفكك والسائل.
نحتاج خطابًا قادرًا على الإقناع، وأكتافًا عريضة تحمل رسائلنا للداخل والخارج، وأنماط عمل مُستدامة تنضبط بمعيارية واضحة، وتحقق الكفاية والأمان. نحتاج إلى إسناد المؤسسات الكبيرة، وتقويم الصغيرة، وإعادة المنحرفة منها إلى جادة الطريق. وإلى الزجر والردع مخلوطين بالحرية والثقة، والتعويل على الضمير والكفاءة المهنيّة دون إغفال آليات الرقابة والمُساءلة والحساب.
لسنا فى وارد البقاء على الحال القديمة، ولا رفاهية لدينا تسمح بمواصلة إهدار إمكانات القطاع وطاقاته، كما لن تتحقق الفائدة إلا بالإنجاز الشامل لا الجُزئى، وبتوصيف الوقائع وتحديد الأدوار، وإلزام النقابات والمؤسسات والأفراد بالتزاماتهم؛ بعدما تعرف الحكومة ما عليها أيضًا وتُنجزه، وفى هذا صلاح لها ولهم، وللبلاد والعباد جميعًا.