محمد أيمن

الإخوان والصهيونية .. تقاطعات الخيانة في عباءة الدين

السبت، 02 أغسطس 2025 03:25 م


من العبث أن يستمرّ البعض في تجاهل الحقيقة الراسخة، تلك التي تجعل من تنظيم الإخوان المسلمون ظاهرة استثنائية تحمل في طياتها هدفًا أبعد من الشعارات الدينية. فما عُرف بحركة “الإخوان” لم يكن يومًا مشروعًا وطنيًا في مصر أو سوريا أو فلسطين، ولا تجاوز كونه مثالًا صارخًا على تقنيات “صناعة الأداة” التي تخدم أجندات تتخطى حدود القضايا الوطنية.

صُنع في غزة… بترخيص من تل أبيب!!

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي انطلقت حركة حماس في غزة كفرع لهذه المنظومة، في سياقٍ إقليميٍ ودولي معقّد شهد تراجعًا في نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية وصعود التيارات الإسلامية. لكن اللافت أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وفق شهادات مسؤولين سابقين، لم تتعامل مع حماس في سنواتها الأولى كعدو، بل كقوة موازنة لـ”فتح” والمنظمات القومية. وقد اعترف عاموس جلبوع، المسؤول الاستخباراتي الإسرائيلي السابق، بأن تل أبيب أخطأت عندما رعت نموّ حماس على أمل أن تظلّ أداةً لتفتيت الساحة الفلسطينية داخليًا، فيما أقرّ ضابط الشاباك إسحق سيغال بأن القيادة الإسرائيلية غضّت الطرف عمدًا عن مؤسسات الحركة في غزة، معتقدةً أنها “أقل خطرًا من فتح”.

هنا يكمن جوهر الخطر، إذ تتحوّل فكرة المقاومة من مشروع وطني جامع إلى وظيفة مؤقتة توظِّف الأزمات وتضخ الدم في أجهزة الأجندات الخارجية. لقد صُممت هذه الاستراتيجية سابقًا في لبنان حين دعمت إسرائيل ميليشيات دينية خلال الحرب الأهلية، وفي العراق عبر قنوات خلفية لإنشاء تشكيلات إسلاموية، كما فعلت استخبارات باكستان وأمريكا حين طوّرت طالبان في التسعينيات، قبل أن تتحول إلى كابوس على من رعاها.

الجذور البريطانية والوجه الاستعماري للإخوان

تاريخ الإخوان في مصر يكشف كذلك شبكة علاقات مع قوى الاستعمار التقليدية. فقد استند حسن البنا في تأسيس الجماعة عام 1928 إلى سياسة “الدين مقابل الوطنية” التي تبنتها المخابرات البريطانية لكسر المدّ القومي في المنطقة. ووثّق الباحث البريطاني مارك كيرتس في كتابه “العلاقات السرية” دور لندن في دعم الإخوان لإضعاف الحركات الوطنية، وفتح الأبواب أمام تدخلات غربية مبطنة.

الإخوان وصناعة الأداة خارج الإطار الوطني

في لحظات حاسمة تفاجأنا الجماعة بمحاولات اغتيال رفضها الإعلام الراهن، الفضيحة الكبرى تجلت بعد 1948، حين رفض الإخوان الاعتراف بشرعية الدولة المصرية عقب إعلانها الحرب على الكيان الصهيوني، وبدأوا في تنفيذ أجندة موازية تحت غطاء "الجهاد"، انتهت بواقعة اغتيال القاضي المصري أحمد الخازندار سنة 1948، وتفجير محكمة استئناف القاهرة سنة 1949، ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية 1954.

المحاولة الفاشلة لاغتيال ناصر تزامنت مع تحركات إسرائيلية مكثفة في ملف التسلح النووي وبناء شبكة علاقات استخباراتية في أفريقيا، وهو ما دفع ناصر بعد فشل الاغتيال إلى تصريح شهير قال فيه: "الإخوان أدوات، لا وطن لهم... وهم جزء من مؤامرة أكبر". هذا التصريح لم يكن مجرد اتهام، بل تلته محاكمات كشفت تمويلات أجنبية ودور استخبارات معادية في دعم نشاطهم التخريبي. ولم تقتصر المؤامرات على هذا الحد، بل انخرطت الجماعة في تحالفات مع إسرائيل والغرب، في مقابل استهدافها المشروع الوطني المستقل، ومحاولة تعطيل أي تجربة دولة قوية.

الربيع العربي كفرصة لتفكيك الدولة الوطنية

أما في قلب الربيع العربي فقد برزت الحقيقة بوضوح حين استغلّت الجماعة الزخم الشعبي للانقضاض على الحراك الحقيقي، متحالفةً مع قوى خارجية وغارقةً في صراعات داخلية، مهددةً بانقسام المجتمعات وتفكيك مؤسساتها، حتى في مصر نفسها. لقد شرعوا حملات لتقويض الجيش والقضاء والإعلام، وسعوا لفتح معابر التهريب في سيناء بدعم جهات خارجية، بما أدى لإضعاف الجبهة الداخلية وخضوعها لضغوط تمتدّ من تركيا وقطر إلى إيران.

ومع تصاعد المواجهات في غزة، لم يكن من قبيل الصدفة أن تختفي أصوات الجماعة عن الدفاع الجدي عن المدنيين، بينما تتوجّه سهامها تجاه القاهرة، بدلاً من تل أبيب. فقد نظّموا فعاليات احتجاجية أمام السفارات المصرية في عدة دول، مسمّين جهود الوساطة والمساعدات الإنسانية “خيانة” للحق الفلسطيني، في محاولة لتشويه صورة مصر أمام العالم، رغم ما قدمته من دعم وتضحيات تاريخية.

في سيناريو مألوف، تكشف هذه الخطوات عن استراتيجة منظمة لتصدير الأزمة، وإفراغ القضية من مضامينها الإنسانية والقومية، عبر استخدام عاطفة الناس وتوجيهها نحو خصم بديل. فحين تُحظر دخول المساعدات من معبر رفح بذريعة “اعتباره تحت الاحتلال”، يتبيّن للمراقب البعيد أن الهدف ليس المأساة الإنسانية بقدر ما هو استثمارها سياسيًا وتجاريًا، حتى إذا احتكرتها عناصر فاسدة داخل القطاع وأرغمت الأهالي على شرائها بأسعار باهظة.

الإسلام السياسي في إسرائيل.. نموذج التوظيف المستمر

التحرك لا يمكن فصله عن السياق التاريخي للنشاط الإخواني داخل إسرائيل، والذي بدأ منذ تأسيس ما يُعرف بـ"الحركة الإسلامية في إسرائيل" عام 1971 على يد عبد الله نمر درويش، متأثرًا بأفكار حسن البنا، وبتواطؤ أمني مباشر من الموساد والشاباك، في وقت كانت الأراضي المصرية -سيناء- تحت الاحتلال، حيث أُتيحت له حرية الحركة في تأسيس المساجد والجمعيات الخيرية داخل الخط الأخضر، في الوقت الذي كانت فيه أي حركة وطنية فلسطينية تُقمع بعنف.
وفي عام 1981، أُدين نمر درويش بإنشاء تنظيم سري مسلح، لكنه خرج من السجن ليعود متبنّيًا خيار "الاندماج" مع المؤسسات الإسرائيلية، ويقود لاحقًا تأسيس الذراع السياسية للحركة.

عام 1996، انقسمت الحركة إلى جناحين: الجناح الشمالي بقيادة رائد صلاح، الرافض للمشاركة في الكنيست، والذي حُظر لاحقًا. الجناح الجنوبي بقيادة منصور عباس، الذي شرعن المشاركة في العملية السياسية الإسرائيلية، ووصل إلى حد الانضمام لتحالف حكومي بقيادة نفتالي بينيت عام 2021، وهو أحد أكثر الساسة الإسرائيليين تطرفًا في ملف الاستيطان.

ولم يكن ذلك سوى تتويج لمسار طويل من الوظيفة السياسية، تمثل في: تمرير موازنات إسرائيلية تضمنت دعمًا مباشرًا للبنية التحتية في المستوطنات عام 2022، مقابل وعود بميزانيات للقرى العربية. صمت مريب تجاه اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة.

تصريحات علنية من منصور عباس تؤكد أن "إسرائيل دولة يهودية، وستبقى كذلك"، في إقرار كامل بالرواية الصهيونية. بل الأكثر فجاجة، أن الحركة ذاتها رفضت دعم هبة القدس عام 2015، واعتبرت الانخراط فيها "غير حكيم"، خشية توتير علاقتها بتحالفاتها داخل الكنيست، في مقابل صعود خطاب هجومي ضد مصر في أكثر من مناسبة، عبر منابر عبرية وإسلاموية مشتركة، كانت رسالته واحدة: حمّلوا مصر ما يعجز الاحتلال عن تبريره.

الخيانة المغلّفة بالدين وأكذوبة المقاومة

اليوم، يُعاد تفعيل هذه الوظيفة من جديد. فمع تصاعد الضغط الدولي على إسرائيل، ظهرت الحاجة إلى تشتيت الأنظار. وهنا، تُدفع عناصر محسوبة على "الإسلام السياسي" لتصدّر مشهد مفتعل أمام السفارة المصرية، بهدف النيل من صورة القاهرة، والتغطية على مأزق الاحتلال السياسي والعسكري.

لكن الصورة الأوسع تكشف أن الإخوان ليسوا فقط تيارًا محليًا منحرفًا، بل جزء من نمط عالمي أشبه بما نراه في ظاهرة "الصهيونية المسيحية"، التي استخدمت المعتقد الديني لتبرير مشروع استيطاني عدواني. كما خرجت "صهيون يهودية" من رحم الكنيسة الغربية، خرجت "صهيون مسلمة" من رحم الإخوان المسلمين. كلا التيارين يخدمان ذات المشروع بوجهين مختلفين: الأول يبرر الاحتلال باسم النبوءة، والثاني يفكك الأوطان باسم الخلافة. في الحالتين، لا فرق في النتيجة: تمكين إسرائيل وإضعاف الجبهة العربية والإسلامية.

حين يخرج عناصر من "الحركة الإسلامية في إسرائيل" – أحد أذرع الإخوان – ويتظاهرون أمام السفارة المصرية في تل أبيب بينما تصمت ألسنتهم عن جرائم جيش الاحتلال، فإن الأمر لا يتعلق بموقف عابر أو قراءة خاطئة، بل بوظيفة محددة: تقديم خصم بديل للرأي العام وتبرئة العدو الحقيقي.

التاريخ يعلّمنا أن تسليم الجغرافيا لميليشيات مسلحة لا يبشر بخير، فقد سقطت الدولة السورية حين سُلّمت مساحات كبيرة لتنظيمات هجينة، وتكرّر المشهد في ليبيا بعد إسقاط القذافي، كما كاد يحدث في مصر لولا يقظة الشعب في 30 يونيو 2013. واليوم تغتال فكرة الدولة في اليمن ولبنان، كما سوريا وليبيا، والمحاولات مستمرة في السودان والصومال وغيرها، فتنهار جيوش وتُفتَح الحدود للتدخلات الإقليمية، بينما يظل العنوان الحقيقي هو إفراغ المنطقة من مؤسساتها الصلبة.

وكانوا في مصر على وشك تسليم سيناء لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، كما كشف اللواء سامح سيف اليزل قبل وفاته، بأن هناك اتصالات رُصدت بين مكتب الإرشاد ومسؤولين أمنيين إسرائيليين في تل أبيب خلال حكم مرسي.
بل إن خيرت الشاطر، نائب مرشد الجماعة، قال في لقاء مسرّب مع شخصيات فلسطينية سنة 2012: "إحنا عايزين نعمل ممر آمن من رفح لغزة، ولادنا هيساعدوكم". هذه العبارة كانت تسبق مشروعًا لتفريغ سيناء من الجيش وتحويلها إلى منطقة عازلة، وهو ما واجهته القوات المسلحة بكل حسم بعد 2013.

الإخوان لم يكونوا في أي لحظة طرفًا في مقاومة حقيقية، بل كانوا دومًا "حصان طروادة" الداخل العربي، يضرب من الداخل، ويسقط الدول واحدة تلو الأخرى، ليصعد الكيان الصهيوني فوق الأنقاض. وبينما يحمل الصهاينة في إسرائيل التوراة كغطاء للعدوان، حمل الإخوان المصحف كغطاء للخيانة.

إن مراجعة السياق التاريخي لنشأة الإخوان وفروعهم، بما في ذلك “حماس” و”الحركة الإسلامية في إسرائيل”، لا تنفي مأساة شعب غزة، بل تعيد تعريف الصراع من مقاومة وطنية إلى لعبة توظيف سياسي، تختلط فيها المشاريع بالخدمات المؤقتة، وتُحوّل القضايا العادلة إلى أدوات للتفكيك والتصدير.

وفي زمنٍ بات فيه العدو لا يحتاج إلى احتلال عسكري شامل، فالفوضى تكفي، تصبح المواجهة أكثر تعقيدًا. ليست أزمة مؤقتة أو حادثًا عابرًا، بل تفكيك كامل للمنطقة تُرسم ملامحه على حساب الأوطان والعقول. وخطر هذا التنظيم لا يكمن فقط في فشله السياسي أو سقوطه في مأزق الحكم، بل في قدرته المتجددة على التلون والخداع، عن طريق استغلال الدين وشعاراته، وتغليف الأجندات المريبة بعباءات روحية.

من هنا، فإن المواجهة مع هذا التنظيم ليست بلاغية أو سياسية حصريًا، بل وجودية، تستلزم فضح أدواته وكشف خلاياه وشبكاته. هي معركة وعي تتطلب إعادة إحياء القيم الوطنية الجامعة، وتحصين المجتمعات من الانخداع بالتطرف، سواء سماه الإخوان “المقاومة” أم “الإصلاح”. فالمقاومة الحقيقية تتكامل مع الجيش والمؤسسات الوطنية، ولا تُسخّر دماء الأبرياء ولا تفرّق الصفوف لتحقيق مكاسب ضيقة، ولا تُحوّل القضية إلى تجارة أو صراع مصالح.

الإخوان، بكل مسمياتهم وتفرعاتهم، لم يكونوا يومًا جزءًا من مشروع تحرري حقيقي. كانوا، ولا يزالون، أداة اختراق ناعمة بأغلفة دينية، تستهدف تدمير بنية الدول لصالح خصومها. والتاريخ، الذي لا يكذب، يروي أن كل مرة تمددت فيها الجماعة، كانت الحدود تُستباح، والجيوش تُستنزف، والقضية الفلسطينية تتحوّل إلى ساحة تصفية حسابات بين أطراف لا يعنيها التحرير قدر ما يعنيها التمكين والسلطة.

وبعد كل هذه الشواهد التاريخية، يستحيل تجاهل دور الإخوان كأداة وظيفية ضمن مشروع أكبر يهدف لتفكيك الدولة الوطنية. وفي لحظة تعصف فيها العواصف الإقليمية، يصبح وعي الجماهير هو الدرع الحصين، القادر على التمييز بين الأصالة والخيانة، بين المقاومة الحقيقية والتوظيف السياسي. فقط حينها نستعيد القضية الفلسطينية في بعدها التحرري والإنساني، بعيدًا عن توظيف الأزمات وبيادق الأجنبي في حروب المصالح.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب