لا تستقيم المباراة إذا ارتدى الفريقان زيًّا مُوحَّدًا، أو صوَّب اللاعبون على مرمىً واحدٍ. وما جرى بين الصهاينة والمُمانَعة، وما زال حتى الآن، يخلِقُ مزيجًا مُركَّبًا ومُربكًا من الصراع: بينهما فى الوجه المباشر، ومنهما إلى المحيط القريب أيضًا، كلاهما يتعشَّم فى أن يخرج فائزًا على الآخر، وألَّا يخسره فى الوقت ذاتِه. إنها الذريعة التى تُبرّر الوجود، وتُخلّق المُربكات وأسباب الفوضى بدأبٍ وحماوة لا تهدأ. فيما الحقائقُ الناصعة يطمرها غبارُ المعارك، ويطمس معالمها، والهزائم كلما أُنكِرَت تستولِدُ المزيد، وما هو أشدّ فداحةً أيضًا.
كلَّما ضاق الخناق على نتنياهو، أتته المساعدةُ من حيث لا يدرى ولا ينتظر، وتلقّفته يدُ العناية التى كان يُفترَض أن تُجهِزَ عليه، لا أن تُعينَه وتُوفّر له فُرَص المناورة والانفلات وخلط الأوراق، وهذا ما فعله السنوار بطوفانه فى زمن الاشتباك على خطة الإصلاح القضائى، ويُفعَل إلى الآن من مُتطوّعين لا حصر لهم.
وعلى تلك الحال يمضى الذئب المُجرِّب، مُتقافزًا بين الجبهات، وما إن يختنق فى واحدة منها، حتى تُواتيه فسحةُ الأمل من غيرها.
وصلت غزة إلى قاع الضغوط المُمكنة، ولم يعُد خطاب الاستمرار فى العدوان تقصّيًا لأثر حماس، أو بحثًا عمَّن تبقوا من الرهائن، مُقنعًا للداخل قبل الخارج.
العالم على أطراف أصابعه، والجنرالات راضخون من دون اقتناع، ولا تتوقَّف المظاهرات فى شوارع تل أبيب وعلى مقربة من مرافق الحكم.
وإلى ذلك، كأن الحركة تستشعر أخيرًا فداحة الضغوط الثقيلة، وتعرف أنه لا سبيل لمواصلة اللعبة بالآلية نفسها، ولا بديل عن الاستدراك بأىِّ قدرٍ مُمكن، واستحثاث الحلول على ظاهر الهُدنة المُعلَّقة فى فراغ مجهول، وقناعة التسليم فى آخر المطاف.
وبحسب المُتردِّد، فإنها صارت أَميَلَ إلى ورقة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، ونسختها المُعدَّلة برؤية قطرية، لم تكن بعيدةً فى تكوينها بالقطع عن المفاوضين الحماسيين.
وقد أوردت تقارير حديثة أنهم أخطروا الوسطاء بالعودة إلى بنود الصفقة دون تعديل، وبارتدادٍ واضحٍ عن الخلافات السابقة، فيما يخصُّ خرائط الانسحاب وإعادة التموضع.
احتضنت القاهرة لقاءً بين عدد من الفصائل، لم يكن خاليا من الصخب والاعتراضات على مجريات الأمور كما هو متوقع، ويُقال إنه انطوى على مطالبات صريحة بالذهاب إلى التهدئة تحت أى شرط، ورفع القضية الوطنية فوق الاعتبارات التنظيمية.
ويبدو أن حصيلة المداولات قد أقنعت وفد خليل الحية بضرورة الاستجابة لرؤى الشركاء المباشرين، وما ينعكس فيها من أجواء الشارع وأصوات الغزيين الغاضبة.
والجدل هنا بين أمرين مُحتملين من جهة الحكومة الإسرائيلية: إما أنها تقصّدت تكثيف الضغوط السياسية والعسكرية بالحديث عن خطة احتلال القطاع، بغرض استخلاص تنازلات تحقق الحد الأدنى من تطلعات نتنياهو بشأن ما بعد الحرب وملامح «اليوم التالى»، أو أنه كان يستبق الليونة المُنتظرة من الحركة ويُصعّد باقة أهدافه، بحيث لا يعود مُضطرًّا للرضوخ إلى التسويات التى تجاوزتها الوقائع، أو صارت أقل من تطلُّعاته المُحدَّثة، والمختومة بقرارٍ من المجلس الوزارى المصغّر/ الكابينت.
وفى الحالين، لن يكون بمقدور عجوز الليكود أن يستكمل مُغامرةَ التجويع والإبادة تحت الظروف العادية، وما لم تتوافر له أجواءٌ مثالية لحَرف الأنظار عن بيئة المأساة مُجدَّدًا، فسيجد نفسه أمام مُوجِبات التوقُّف عن إسالة الدم، وعن ربط الأحجار القاسية على بطون الأطفال والنساء الجوعى.
ومن سابق الخبرة معه، فلن يتوقَّف عن مساعيه للفكاك من قيود اللحظة، والتفتيش عن ثغرات ينفذ منها إلى أهدافه فوق الحربية، وأغلبها يخص ترتيبات البيئة السياسية والقفز على كمين المساءلة والحساب، أكان عن قضايا الفساد، أم إخفاقات الطوفان وما بعده إلى اليوم.
وكالعادة، يعود الإخفاق مجددا إلى سوء الإدارة من جانب حماس، وانعدام رؤيتها لوقائع الأرض منذ السابع من أكتوبر وما تلته من تداعيات ثقيلة.
خُطّطت العملية باندفاعة هائجة خاطئة، وأُديرت التبعات بانفصال كامل عن الواقع، وأدمنت آلة الدعاية الأيديولوجية خطاب النصر فى مواضع الهزيمة، حتى أنها لم تعد قادرة على استيعاب الحادث أو استشراف المقبل.
وبهذا، سارت على طول الشهور الماضية من ارتباك لما هو أعظم، وتنقلت من سيئ لأسوأ، وبدا أنها أدمنت تضييع الفرص الممكنة، وشراء الأقل منها لاحقا بأثمان أعلى.
وبعيدا من البكاء على اللبن المسكوب، فإن الاقتراب من التفاهم على ترتيبات يقبلها الطرفان، بمثابة اعتراف متأخر بانتكاسة الميدان وانكسار التوازنات لدرجة لا تحتمل الترميم أو استعادة الاعتدال قريبا.
والمهم ألا تكون الخطوة مغامرة كسابقاتها، وأن يتّسع مدارها من التوافق الاضطرارى مع العدو، إلى الوفاق الاختيارى المُعجّل مع الشقيق، ومُزاوجة المسلك التهدوى المؤقت مع مسار تصالحى يُركّز الأسس الواجبة لإعادة لملمة المُتشظّى وطنيًّا، وبناء جدار يصلح لإرخاء مظلة الإجماع على كل المعنيين بالنكبة الدائرة فى غزة، والمتسعة بوتيرة مزعجة لتخيّم على عموم الضفة الغربية.
وما يزيد الامتحان صعوبة، أنه سباق حثيث مع الزمن، لا من جهة مأساة القطاع وحاجاته الضرورية فحسب، أو تغوّل الاستيطان على المكون الأكبر من خريطة الدولة المأمولة، إنما لأن آثار الطوفان وموجاته الارتدادية ما تزال حاكمة للمشهد العام، وتربط الساحات ببعضها ولو لم يُرد أهلها، حتى أنه بإمكان الحكومة الصهيونية المتطرفة أن تهرب من الضيق هنا إلى السعة النسبية فى لبنان مثلا، أو تفجر المجال العريض للصراع باختراع مواجهة تتخطى حدود فلسطين، وتسحب الضوء عنها تماما.
ثمّة مؤشرات واضحة على أن الحُكم فى تل أبيب يتحضّر لتصعيد جديد، وما بين المصارين المفتوحة شمالا مع الشام وبيروت، يظل الأخطر على الإطلاق أن تُستعاد أجواء القتال المباشر مع الجمهورية الإسلامية.
أنجز جيش الاحتلال مناورات نوعية فى الفترة الأخيرة، ولا يغيب حديث الذهاب إلى إيران مرة ثانية عن واجهة الخطاب الإعلامى، كما أن الأخيرة أعادت هيكلة أجهزتها الأمنية، ووحّدت مسارات التنسيق والقرار تحت سقف مجلس الأمن القومى فى تشكيلته المحدثة، ويبدو أنها تتجهّز لتوقُّعات تُتَدَاولُ فى الكواليس، أو تُرجّحها الحسابات المنطقية وتعَقُّد خطوط الاتصال والتفاوض مع الولايات المتحدة.
وسواء كان الصهاينة مُستعدّين للرقصة التالية مع الملالى، أو يُحَمّرون عيونهم لأغراضٍ دعائية، غايتها الردع والترويض، فإن نتنياهو بطبيعته الاحتيالية المعروفة لن يتوانى عن افتتاح مغامرة جديدة، مهما كانت مخاطرها وتكلفتها، لأجل أن يحافظ على المكتسبات المُتحقِّقة على الجبهة الفلسطينية، وضمان أن يكون قرار إنهاء الحرب اعترافًا مبرمًا من حماس بالهزيمة الكاملة، وتعبيدًا لطريق سياسية وإدارية لا يعود فيها القطاع مُرتكَزًا للدولة أو جناحًا ثانيًا، ولا قوّة مضافة للسلطة فى رام الله.
ويظل عامل الخطر الأكبر قائمًا وراء نهر الليطانى، والذريعة المثالية أيضًا. لقد تضرَّر حزبُ الله بعمق على صعيد القيادة واللوجستيات، لكنه ما يزال قوة قادرة على الإرباك أو إشعال الفتيل على الأقل.
بينما أعادت طهران إدارة محركاتها باتجاه الضاحية، على مستوى التصريحات الساخنة رفضا لنزع السلاح، أو إيفاد على لاريجانى لامتصاص غضبة لبنان الرسمى فى اللقاءات المعلنة، وترتيب الأوراق وتحديث أوامر العمليات مع نعيم قاسم فى الغرف المغلقة.
ولم يعُد محلّ شك أن الحرس الثورى ما يزال يتمسك بأهم ألويته الخارجية حتى الساعة، وبعدما أوعز له بقبول الاتفاق مع إسرائيل فى نوفمبر الماضى، بكل ما فيه من مرارة وأعباء مادية ومعنوية مؤلمة، عاد اليوم إلى استنفار عروقه الغاضبة، وتحفيزه على المماطلة فى بنوده مع العدو، وفى التزاماته الواجبة إزاء الشركاء من بقية المكونات.
وذلك لدرجة أن يهدد الأمين العام مؤخرا بالحرب الأهلية، ويُطلق شبيبة الحاضنة الشيعية بالدراجات النارية فى شوارع العاصمة، مذكّرا الجميع بأجواء اقتحامها بالبنادق فى العام 2008، ومدافعا بكل طاقته عن منطق الدولة، وأن يظل حاكما ومتسيدا على الدولة ونظامها، وعلى ميثاقية التعايش تحت سقف الدستور وتوازنات الطوائف.
ولا حاجة للتذكير بأن إسرائيل لم تتوقف يوما عن خرق بنود الاتفاق، وتتجول فى سماء لبنان تحت سمع الحزب وبصره، وتصطاد عناصره بيُسر كأنها فى نزهة صيد برية آمنة.
وما كان فى سياق الارتداع وخفوت الصوت، فقد يتصاعد وتزيد حماوته طرديا مع سخونة رؤوس الحزب، وعودته إلى لغة التحشيد والاستقواء النحاسية. ولأنه عجز عن التكافؤ وإثبات الندية عندما كان بكامل عدّته وعديده، فلن يكون قادرا على المواجهة الآن بعد كل ما ناله من ضربات قاسية، وإزاء اتساع الفوارق وغياب القدرة على التعويض وتجديد فواقد القوّة.
من المرتقب أن يعود المبعوث الأمريكى توم برّاك لبيروت خلال الأيام المقبلة، متوقعا الرد على ورقة الشروط السابقة فيما يخص المواعيد وإجراءات التمشيط وحصر السلاح فى يد الدولة.
كانت الحكومة قد طلبت من الجيش خطة عملية بنهاية أغسطس، مجال تنفيذها إلى آخر العام، بينما يُنتظر أن يتصدّى مجلس الأمن لمهمة تجديد ولاية قوات اليونيفيل الدولية خلال الأيام المقبلة، وكلها تفاصيل ستتأثر حتما بصخب الحزب وخطابه التحذيرى المتأجج، ما يضع البلد أمام كل الاحتمالات، من أول إنهاء تفويض القوة الدولية أو ترشيد عددها، وإلى الصدام مع مؤسسات الدولة تلويحا بمقدمات الحرب الأهلية.
المؤسف فى سياق كهذا، أنه لا ينبئ فقط عن التنازع واختلاف الأولويات الوطنية، بل يُصرّح بالعجز عن حسم المسائل العالقة داخليا، ويستدعى ضمنا إمكانية التدخلات الخارجية، أكان من خلال الضغوط الأمريكية ومن بعض دول المنطقة، أو باستثمار إيران فى الجبهة المتقدمة لإبعاد شبح الصدام مع إسرائيل فى بيئتها الأصيلة.
فيما يُمكن أن تصعّد الأخيرة مع رأس المحور بما يستتبع ذلك من التزامات تُفرض على الحزب من مشغليه، أو تعود إلى آلية العمل فى الأطراف باستدراج الأذرع وتحييدها، قبل التصويب على المركز.
الاختناق داخل لبنان لا يطيل أجل التسوية البينية فحسب، بل يحفز التدخلات العابرة للحدود، ويفرض حلولا إذعانية من خارج المجال الوطنى للأسف. ولا فارق هنا بين أن يكون الحزب طُعما يُصار منه إلى اصطياد الجمهورية والمرشد فى معاقلهم مجددا، أو أن يكون وكيلاً مأمورًا بالدفاع عن الحاضنة تحت شرط الولائية العقائدية والسياسية، أو انتحاريا يُضحِّى بما تبقَّى منه ومن الدولة لإنقاذ الولىِّ الفقيه على صيغة الدفاعات المتقدمة.
فى الحالين، سيخسر لبنان المزيد، وتتعقّد فرص الإنقاذ والتعافى وإعادة الإعمار، والمهم أن الاهتمام سينحسر عن غزة كما جرت العادة سابقًا، وتعود إلى قدرها المُتكرِّر بالموت تحت جنح الظلام.
ما كان نقطة القوة وأثمن رهانات يحيى السنوار فى الطوفان، ارتد وبالا على بيئته وصار أخطر نقاط ضعفها.
أراد الرجل أن يطلق الشرارة على الآخرين من حقل القش، فاحترق بها ولم يوحّد الساحات أو يربطها ببعضها، وعندما لاقاه حسن نصر الله على مغامرته تحت عنوان «الإسناد والمشاغلة»، استرق التركيز وانشغال العالم بوجيعة الغزيين.
وكذلك فعلت إيران فى مناوشاتها مع إسرائيل بين الشام وفارس، فكأن الحلفاء أضروا بصانع الاشتباك وصاحب قراره، بدلا من إعانته فى الميدان، أو ترك المظلمة صافية من التشغيب والتلوين الأيديولوجى المُشوّه.
ولأن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، أو هكذا يجب عليه أن يحتاط ويتعلم من سوابقه، فلا مناص من أن تستوعب حماس تلك الدراما الممجوجة بتكرارها على فواصل ضيقة، وقد حدثت جنوبى الليطانى من فاتحة الإسناد مرورا باستهداف الضاحية وحادثة قرية مجدل شمس الدرزية وحتى اغتيال نصر الله وهاشم صفى الدين، وتكررت فى ضرب السفارة الإيرانية بدمشق، ثم ليلة الصواريخ والمُسيّرات بعدها، وجولة أكتوبر الماضى وصولا إلى حرب يونيو القريبة.
والشواهد المُتوالية تُرشّح الذهاب إلى مناورة إضافية لتفريع الخطوط وإرباك العقول والأبصار، ويتعين على الحركة ألا تشرب كأسها الفارغة مجددا، لأنها ستخرج من الوهم إلى سياق أشد تعقيدا، بالتزامات أكبر، وهامش أقل ضآلة لنجاتها الفردية، أو تجنيب القضية كلفة النزوات الطائشة وغير المحسوبة.
يحل رئيس الوزراء الفلسطينى ضيفًا على مصر منذ أمس، وبجانب اللقاءات الرسمية والمؤتمر الصحفى مع وزير الخارجية بدر عبد العاطى، من المنتظر أن يتضمن برنامج الزيارة جولة فى محيط معبر رفح من جانبه المصرى.
والمؤكد أن مسائل الهدنة والمصالحة وملامح اليوم التالى ستكون على رأس المداولات، وعنوانها العريض لجنة الإسناد المجتمعى التى اقترحتها مصر سابقا، بحثا عن إدارة تنفيذية قوامها من التكنوقراط غير الفصائليين، وبما يفتح الباب لوقف الحرب وتفعيل الخطة المصرية للتعافى المبكر وإعادة الإعمار، التى اكتسبت صفة إقليمية ودولية بعد اعتمادها من القمة العربية الإسلامية، والتلاقى على مفرداتها من عواصم عالمية كبرى، ضمن التصور الانتقالى من زمن العدوان إلى خارطة طريق سياسية تقود فى النهاية إلى «حل الدولتين»، أو على الأقل تُبقيه خيارا وحيدا للمستقبل، إن تعذر إنفاذه فى الحاضر.
يُعرَفُ نتنياهو بالمكر والدهاء، ويَعرِفُ قبل غيره أنَّ الأمور ماضية باتجاه لا يُوافق أحلامه اليمينية الصاخبة، ونواياه الإلغائية المُتعجّلة للحوادث وسياقاتها، ولإفساد المسار لن يتورّع عن ارتكاب كل المُوبقات لإبقاء الانسداد قائمًا، أو إجبار الجميع على خيارات توافق هواه.
وربما لهذا رتّب حديثه مع المذيع اليمينى المتطرف شارون جال فى قناة I24، بما أثاره عن أوهام «إسرائيل الكبرى» متقصدا استفزاز الحزام العربى، والضغط على أعصاب مصر بما يُفسد الوساطة أو يخلق صداما مع حماس، لكن الرهان لم يحقق المراد منه، انطلاقا من وعى القاهرة واحتوائها لمحاولة التشغيب والالتفاف، ثم بناء موقف إقليمى ودولى مضاد لخطاب الاستنفار وتسعير أجواء الريبة والتحسس على امتداد الإقليم.
وما من حاجة هنا للتذكير بأنه لم يقل جديدا، وسردية إسرائيل الكبرى عتيقة وقد تفوق عمر الدولة نفسها، منذ اصطنعها آباء الصهيونية فى جملة ما ادّعوه لأغراض سياسية امبريالية، ومنحوه جسما وكساء من نسيج التوراة ومظانّها الأسطورية غير المثبتة تاريخيا. والعلم بالشىء لا ينفى وجوب الانفعال به والتصدى له بحسم، إنما يجب ألا يقود العالمين للتورط فى ردود فعل تحقق مقصود صانع المكائد المحترف فى تل أبيب.
ستظل إسرائيل خطرا على محيطها طوال الوقت، وبإرادتها تختار أن تكون فى موضع العدو دون أى بديل آخر، لكن المآلات محكومة باعتبارات عدّة شديدة التعقيد، لا بالنوايا والأطماع فحسب.
والبلد العاجز عن تصفية مشكلاته فيما بين النهر والبحر، ويتهدّده خطر الذوبان ديموغرافيا وسط سبعة ملايين فلسطينى فى المناطق المحتلة ووراء الخط الأخضر، أعجز وأضعف كثيرا من أن يقضم ما لا يستطيع مضغه وابتلاعه، أو يفتح صدره على جوار يفوقه حجمًا فى الجغرافيا والديموغرافيا، ولا يملك أن يُروّضه، كما لا رفاهية لديه للمخاطرة بالامتزاج معه والتلاشى فى كثافته الثقيلة الهادرة.
تضخّمت الأحلام بعد يونيو 1967، لكنّ المُحتلَّ عجز عن الاحتفاظ بأثمن مُكتسبات العدوان لأكثر من عدّة سنوات، والصورةُ اليومَ على غير ما كانت سابقًا، وليس بمقدوره أصلاً أن يستجرّ ذكريات التجربة، وليس أن يفكر فى تكرارها مرة ثانية.
هامشه الوحيد لذلك من جهة فلسطين نفسها، إذ يُداعب مخياله أن يكنس الفائض البشرى عن غزة كخطوةٍ أُولى، يتبعها باستنساخ المحاولة فى الضفة الغربية، وبهما ينقل الصراع إلى الخارج ويتقفّى أثر خصومه فى بيئاتهم الجديدة، بما يُحمّل الجوار تبعات الأعباء الفلسطينية، أو يُوفّر له فُرصةَ الاستدراج واللعب المحسوب مع الجبهات فى صورتها الجديدة.
والفكرة هُنا مُغلقةٌ تمامًا من جهة مصر والأردن، إنما يتعيَّن أن يُغلقها الحماسيِّون من جهتهم أيضًا، وليس بالشعارات ودعايات الصمود والتمسُّك بالأرض فقط، بل باستنقاذها ممَّا يُراد لها فى كواليس السياسة الصهيونية، وتحصينها بابتعاث الأمل فى صدور الغزِّيين أوّلاً، ثمّ تحويطها بإجماع وطنى لا يضعها تحت صفة الجسم الناشز، أو فى مرمى ادعاءات الفراغ وغياب الشريك.
رهنت حماس نفسها طويلا لدى محور المُمانَعة، على أمل أن تجد منه ما ينقذها أو يُعظّم خسائر عدوها.
خاب الرهان لاختلاف الأولويات، ولأن نتنياهو كان أذكى منهم جميعًا، فربط الجبهات وحلَّها وفق حساباته الخاصة، وتسلّى عليها واحدة بعد أُخرى، وبمنطق لا يُطفئ النار ولا يُحوّلها محرقة تأكله فى جملة الضحايا.
ولو صحّت نوايا الحُلفاء على طريق القدس، لكان أَوْلَى بهم أن يتساندوا بالعقول لا الحناجر، وأن يسحبوا ذرائع الصهاينة بدلاً من إرخائها: تسليط الضوء على نكبة غزّة، وتبريد الساحات الجانبية لأنها فرع على أصل، ووسيلة للاحتيال وصرف الانتباه.
تسليم الحزب فى لبنان بمنطق الدولة، يُوفِّى التزامات حقيقية ترتّبت عليه عندما استبد بالبلد، وانفرد وحده بقرار الحرب والسلم. ويتوجّب على الجمهورية الإسلامية أن تفك وثاق الذين استتبعتهم، وتُحرِّرَ دُوَلَهم معهم، وألا تستثمر فى مآسى القطاع، طالما أنّ بإمكانها أن تُخلّى سبيل حماس، أو تُخطرها بما يقتضيه المنطق وضرورات اللحظة.
نتنياهو فى أَوج انفلاته، ويُوظّف غباء الخصوم ضدّهم، ولصالح نزواته الخاصة. الهُدنة حال إبرامها ستكون ثغرة فى جدار الائتلاف القومى والتوراتى، ويجب العمل بكل السبل الممكنة على توسعتها، والاستثمار فيها، لأنه لا أمل فى أى تغيير ضئيل إلا بإطاحة مخبول تل أبيب، ولا إطاحة إلا بتعقُّل مخابيل المُمانَعة أو تنحيتهم جانبًا.