لم تكن العلاقة بين مصر والمملكة العربية السعودية يومًا علاقة عابرة أو مصالح آنية تنتهي بانتهاء الظرف، بل كانت دائمًا علاقة راسخة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، تستند إلى وشائج الدين، وصلات الدم، ورابطة العروبة، وتتقوّى بصلابة المواقف ووحدة المصير، في مشهدٍ لم ينفصم يومًا رغم تغير الأزمنة وتعاقب الأحداث. فعلى امتداد عقود طويلة، ظل البلدان بمثابة جناحي الأمة العربية، وركيزتي استقرارها، ومنارتي هويتها، تتكامل أدوارهما، وتتسق رؤاهما، وتتعاضد جهودهما كلما نادى الواجب أو دهم الخطر، ليشكّلا معًا حصنًا حصينًا في وجه كل التحديات.
وما يزيد هذه العلاقة متانة ورسوخًا، أن التاريخ ذاته يشهد على لحظات التلاقي الكبرى بين القطرين في أشد الظروف وأصعب المحن، فقد حضر الطرفان بقوة في صياغة ملامح المنطقة منذ بدايات القرن العشرين، حين دعم الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود قضية استقلال مصر واحتفى بزعيمها الوطني، كما لم تتأخر مصر عن دعم قيام المملكة العربية السعودية الحديثة والوقوف إلى جانبها في تثبيت دعائمها، لتتأسس منذ تلك اللحظة علاقة وفاء متبادل. ومن ثم تتابعت صور التلاحم، من التضامن في الدفاع عن فلسطين، إلى التصدي للمخططات الاستعمارية التي أرادت سلب الأرض وتفتيت الأمة، إلى الثبات على عروبة القدس، تلك القضية التي لم تغب عن ضمير البلدين.
ولم يكن البعد الديني والثقافي بعيدًا عن هذه العلاقة المتجذرة، بل شكّل ركيزة من ركائزها، فالأزهر الشريف، بمنهجه الوسطي ومكانته العلمية، ظل يمدّ الحرمين الشريفين بعلمائه وطلابه، فيما كانت المملكة وجهة يتوجه إليها المصريون قاصدين المناسك أو السعي في الرزق، ليجدوا فيها صدورًا رحبة، وقلوبًا تحتفي بهم، وإدارة حريصة على التيسير، فلا يشعرون بالغربة، بل بالأخوة، في مشهد يتكرر عامًا بعد عام، ويجسّد وحدة الأمة في أبهى صورها.
وإذا كانت الأزمات هي المحك الحقيقي للعلاقات، فإن وقائع التاريخ تثبت أن المملكة لم تتخلّ عن مصر في أحلك ظروفها، فعندما واجهت العدوان الثلاثي عام 1956، ثم صدمت بنكسة يونيو 1967، كانت السعودية سبّاقة إلى دعمها سياسيًّا واقتصاديًّا، ووقفت إلى جانب جيشها وشعبها دون تردد. وحين اتخذت مصر قرار العبور واسترداد الأرض في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، كانت الرياض شريكًا أصيلًا في المعركة، ووقفت المملكة موقفًا مشرفًا عكس التزامها القومي والإنساني تجاه قضايا الأمة.
ولن ينسى التاريخ، ولن تنسى مصر، الموقف النبيل الذي وقفته المملكة عقب ثورة 30 يونيو 2013، حين تقدّمت السعودية الصفوف دفاعًا عن إرادة الشعب المصري في مواجهة قوى الفوضى والإرهاب. فقد أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، نداءه الشهير معلنًا دعم المملكة الكامل لمصر، سياسيًّا واقتصاديًّا، في وقت كانت فيه البلاد تواجه ضغوطًا داخلية وخارجية هائلة. وكان الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية الراحل، فارسًا في ميادين الدبلوماسية، إذ تصدّى لمحاولات التشويه الغربية، وقال كلمته الحاسمة: “من أعلن الحرب على مصر فقد أعلنها على السعودية”، مُعلنًا أن أمن القاهرة هو من أمن الرياض، وأن الاستقرار العربي لا يتحقق دون مصر قوية.
وبالمقابل، لم تتأخر مصر عن نصرة السعودية في كل موقف، فحين اجتاح العدوانُ الكويت، لبّت مصر نداء الأشقاء، وحين استهدفت التنظيمات المتطرفة أمن المملكة، كانت مصر سندًا حقيقيًّا وشريكًا صلبًا في مواجهة الإرهاب، كما ظلّت القاهرة تؤيد المواقف السيادية للمملكة في المحافل الدولية والإقليمية، وتدعم رؤيتها الثابتة في حماية استقرار الخليج وصون كرامة الأمة.
ولأن ما يجمع بين مصر والسعودية أعمق من السياسة وأكبر من الاقتصاد، فقد كان الانتماء العروبي والمرجعية الإسلامية هما النبض الحقيقي للعلاقة، إذ يرى البلدان في العروبة درعًا للهوية، وفي الإسلام أساسًا للوحدة، وفي نصرة قضايا الأمة فرض عين لا يقبل التراخي. لذا اجتمع الأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء، كما اجتمعت مكة والأزهر، والرياض والقاهرة، على الدفاع عن القدس، ونصرة الشعب الفلسطيني، ودعم استقرار السودان، وحماية وحدة اليمن، ومساعدة لبنان في محنه، في مشهد يؤكد أن البوصلة لا تزال تشير إلى القلب النابض للأمة.
ولم تخلُ هذه العلاقة المباركة من محاولات التشويه والوقيعة، فقد سعت بعض الأطراف الإقليمية إلى ضرب هذا التكاتف، كما حاولت تنظيمات مغرضة، لها باع طويل في بثّ الفتنة، أن تفسد الصف الواحد عبر أدوات الإعلام المأجور، والسوشيال ميديا الموجّهة، إلا أن الزعامة الرشيدة في القاهرة والرياض كانت ولا تزال على قدر المسؤولية، تدير الخلافات بحكمة، وتطوّق النزاعات بروح الأخوة، وتُغلّب المصلحة العليا على أي حسابات ضيقة أو انفعالات لحظية، إدراكًا بأن الفرقة لا تُورث إلا الضعف، وأن وحدة الصف هي طريق القوة والمنعة.
وبكل وضوح، يجب أن تُرفع الكلمة الحازمة في وجه كل من تسوّل له نفسه العبث بالعلاقة الأخوية بين مصر والمملكة العربية السعودية، تلك العلاقة التي لم تُبنَ على حسابات لحظية، بل على رصيد تاريخي من الوفاء والمصير المشترك. إن الأصوات التي تحاول جرّ البلدين إلى بحيرة الأزمات عبر التلاسن الإعلامي، أو إثارة الفتن، أو تأجيج الخلافات المفتعلة، إنما ترتكب جريمة بحق الأمة، وتخدم أعداءها عن قصد أو عن غفلة. وليعلم هؤلاء أن ما بين القاهرة والرياض أعمق من أن تهزّه تغريدة، وأرسخ من أن تنال منه حملة مأجورة أو خطاب متشنّج، وأن من يحاول المساس بهذه العلاقة المتينة، إنما يعبث بأمن العرب جميعًا، وعليه أن يصمت قبل أن يُسجّله التاريخ في خانة المفسدين.
وليعلم الجميع أن القيادتين في مصر والسعودية أوعى من كل هذه المؤامرات، وأقدر على تطويقها، وأكثر حرصًا على مصالح الأمة من أولئك الذين يتاجرون بالكلمات ويشعلون الفتن. لقد أثبتت التجارب أن الحكماء في العاصمتين لا يُخدَعون بضجيج المنصات، ولا يستجيبون لمحاولات الاستدراج إلى معارك جانبية، لأنهم يدركون أن وحدة الصف لا تليق إلا بالكبار، وأن مسؤولية التاريخ تفرض الصبر والحكمة والثبات.
ومن هذا الرصيد الزاخر بالمواقف، انطلقت العلاقة نحو المستقبل برؤية أكثر عمقًا، حيث تتلاقى الطموحات في شراكات استراتيجية متكاملة، وتتشابك الخطط بين رؤية المملكة 2030، ومشروعات مصر في التنمية المستدامة، لتكوّنا معًا مشهدًا عربيًا جديدًا عنوانه: الاستقلال، والتمكين، والنهوض. كما يتسع التنسيق السياسي بين العاصمتين ليشمل كل الملفات الحساسة، من سوريا إلى ليبيا، ومن فلسطين إلى الأمن الإقليمي، في رسالة واضحة للعالم بأن قوة العرب تبدأ من تماسك الكبار، وأن تحالف القاهرة والرياض ليس تحالفًا ظرفيًّا، بل قدرٌ لا غنى عنه لبناء مستقبل الأمة.
وإذا كان التاريخ قد سجّل هذه العلاقة على صفحات الشرف، والحاضر أكد قوتها على أرض الواقع، فإن المستقبل يفتح لها آفاقًا أرحب، لأن مصر والسعودية ليستا بلدين عاديين في جسد الأمة، بل هما قلبها النابض، وركنها الركين، وإذا ما تآزرا، استقامت المعادلة العربية، وإذا ما تصادقا، تراجعت الأخطار، وارتفعت راية السيادة، وخفت صوت التدخلات. فالمصير العربي لا يُرسم إلا بأيدٍ موحدة، والدم العربي لا يتجزأ، وعندما تتصافح القاهرة والرياض، فإن الأمة كلها تتنفس أملًا، وتستعد لمرحلة نصر جديد، يعيد للعرب مكانتهم، وللأمة مجدها.