محمد أيمن

ثروات مصر بين الرمال والصراع.. معركة مصر الصامتة

السبت، 05 يوليو 2025 04:03 م


تتحرك الدول الكبرى اليوم بمنطق لا يلاحظه كثيرين، حيث لم تعد الحروب تُدار فقط بالصواريخ أو العقوبات الاقتصادية، بل صارت الموارد الطبيعية، خاصة المعادن النادرة والثروات الاستراتيجية، هي السلاح الأحدث والأخطر في معركة النفوذ الدولي.

العالم لم يعد ينظر إلى النفط والغاز فقط كعنوان للثروات، بل أصبحت المعادن الاستراتيجية مثل الذهب، الرمال السوداء، التنتالوم، اليورانيوم، الكوبالت والليثيوم، هي كلمة السر في معادلة القوة، والسيطرة عليها تعني امتلاك مفاتيح صناعة التكنولوجيا، الدفاع، والطاقة المتجددة، لاسيما مشاريع الهيدروجين الأخضر والتي كان لمصر السبق فيها.


الموارد.. ملف سياسي بامتياز
لم يعد الحديث عن الذهب أو الغاز أو الرمال السوداء مسألة اقتصادية بحتة، بل صار ملفًا سياسيًا بامتياز، يتحكم في موازين القوى ويحدد مصير الشعوب، ولا عجب أن الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، كانت من أوائل من كشفوا قواعد هذه اللعبة الجديدة، حين استخدم ملف المعادن والنفط كأداة للضغط والتفاوض وإعادة رسم خرائط المصالح حول العالم.


ترامب، الذي لم يتوارَ يومًا خلف الدبلوماسية التقليدية، تعامل مع ملف الموارد بمنطق المساومة العلنية، لا يخجل من إعلان رغبته في الحصول على نصيب بلاده من ثروات أي دولة تدخل معها واشنطن في حوار أو تفاوض، سواء كان الحديث عن حل أزمة سياسية، دعم نظام حليف، أو حتى تقليل التصعيد في منطقة ملتهبة، ولعل النموذج الأوكراني أبلغ دليل على ذلك، حيث تقاطعت المساعدات الغربية والدعم الأمريكي مع تحركات موازية للسيطرة على احتياطيات أوكرانيا من الليثيوم والمعادن الاستراتيجية التي يحتاجها الغرب لمواجهة الهيمنة الصينية في هذا القطاع الحساس.


أفريقيا وآسيا.. ساحات مفتوحة للصراع
هذه السياسة لم تقتصر على أوروبا الشرقية وحدها، بل امتدت بوضوح إلى أفريقيا، دول مثل النيجر والكونغو الديمقراطية أصبحت ساحات مفتوحة للصراع بين واشنطن وبكين، خاصة مع احتوائها على ثروات هائلة من الكوبالت والليثيوم. وبعض دول آسيا، بل وحتى إلى خصوم أمريكا التقليديين مثل إيران، التي لا أستبعد أن تدخل في مفاوضات مستقبلية عنوانها الحقيقي ليس ملفها النووي فقط، بل ثرواتها الجيولوجية التي تمثل هدفًا استراتيجيًا في خريطة الصراع الجديد.


مصر.. ثروات نوعية تفرض مكانتها
في خضم هذا المشهد المعقد، تدرك مصر، التي لطالما وُصفت بأنها ليست دولة غنية بالموارد، أن ثرواتها وإن كانت محدودة مقارنة ببعض جيرانها، إلا أنها تحمل في طياتها قيمة استراتيجية. فمن الذهب، مرورًا بالرمال السوداء التي تكتنزها سواحل البرلس وكفر الشيخ، وصولًا إلى التنتالوم واليورانيوم والمعادن الأرضية النادرة، كلها موارد تُعيد رسم أهمية مصر في معادلة الصراع الإقليمي والدولي، بشرط أن تُدار بوعي، وتُستغل بحكمة، وتُحمى بقوة.


من الاستكشاف إلى الصناعة.. نقلة نوعية مصرية
المتابع لملف الموارد المصرية سيدرك أن سنوات ما بعد 2014 شهدت نقلة نوعية في التعامل مع هذا الملف. لم تعد مصر تكتفي بإعلانات استكشافية أو وعود استثمارية عابرة، بل تحولت إلى سياسات عملية ومشروعات ملموسة، كان أبرزها إطلاق مجمع الرمال السوداء في البرلس، بعكس ما يظنه البعض، مصر ليست دولة وفيرة الموارد بالمفهوم التقليدي، لكنها تملك ثروات نوعية إذا أُحسن استغلالها، تتحول إلى ورقة قوة حقيقية.


شواطئ مصر، خاصة على ساحل البرلس شمالاً، تحتوي على نحو 285 مليون طن من الرمال السوداء، التي تضم معادن استراتيجية مثل الإلمنيت، الزركون، الروتيل، والمونازيت الحاوي لعناصر نادرة وثمينة كالثوريوم واليورانيوم.


مصنع البرلس للرمال السوداء، الذي افتُتح مؤخراً بتكلفة تقارب 4 مليارات جنيه، يُعد خطوة فارقة نحو تعظيم الاستفادة من هذه الثروات، ويُتوقع أن يُدر مئات الملايين من الدولارات سنوياً.


وفتح الباب أمام صناعات متقدمة قائمة على هذه الموارد، تُدر عائدات مباشرة بمئات الملايين من الدولارات، وتفتح المجال أمام تشغيل آلاف العمالة، والأهم، تقطع الطريق أمام التصدير الخام الذي يُهدر ثروات البلاد لصالح مصانع الخارج.


تحديات تقنية واقتصادية.. معركة معقدة
رغم ما تمتلكه مصر من ثروات استراتيجية، إلا أن استغلال هذه الموارد يظل معركة معقّدة اقتصاديًا وتقنيًا، تبدأ من طبيعة الخامات ذاتها، حيث تشير التقديرات إلى أن الرمال السوداء المصرية لا تحتوي سوى على نحو 3.4% فقط من المعادن الثقيلة، بينما تصل تركيزات التنتالوم في بعض المواقع إلى أقل من 0.02%، وهو ما يعني الحاجة لمعالجة كميات ضخمة من الخام لاستخراج كميات صغيرة للغاية من المعدن النقي، الأمر الذي يضاعف من تكلفة الإنتاج ويزيد الحاجة إلى تقنيات متقدمة في عمليات الفصل والتكرير.


فصل عناصر مثل المونازيت والثوريوم يتطلب تكنولوجيا معقّدة وباهظة التكاليف، وهو ما دفع مصر خلال السنوات الأخيرة للدخول في شراكات دولية لنقل جزء من هذه التكنولوجيا، لكنها لا تزال في بداية الطريق وتحتاج إلى توسيع قاعدة المعرفة الفنية محليًا لضمان تحقيق الاستقلال الكامل في هذا القطاع الحساس.

اعتبارات بيئية وأمنية.. ضرورة لا اختيار
إلى جانب تلك التحديات التقنية، تفرض الأبعاد البيئية والأمنية معوقات إضافية، حيث تحتوي بعض هذه الخامات على نسب متفاوتة من الإشعاع الطبيعي، ما يستلزم تطبيق إجراءات سلامة دقيقة ورقابة بيئية صارمة للحفاظ على صحة العاملين والمجتمعات القريبة وضمان استدامة عمليات الاستغلال دون الإضرار بالبيئة.


في المقابل، اتخذت الدولة خطوات تشريعية واضحة، بداية من تعديل قانون التعدين وتيسير شروط الاستثمار، مرورًا بإصدار قرارات حظر تصدير بعض الخامات في صورتها الأولية، وحتى فتح باب الشراكات مع دول تمتلك التكنولوجيا المطلوبة، وكل ذلك في إطار رؤية واعية تدرك أن السيطرة على الموارد لا تكتمل دون امتلاك أدوات القوة والتكنولوجيا معًا.


سيناء والصحراء الشرقية.. كنوز كامنة
في جنوب سيناء والصحراء الشرقية، تحتضن مصر احتياطات مؤكدة من التنتالوم، الذي يُستخدم في صناعة الإلكترونيات والدفاع، إضافة إلى نحو 1900 طن من اليورانيوم، ما يعزز قدرات الدولة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا المتقدمة.


موارد تحتاج حماية قبل استغلال
ورغم كل هذه الخطوات، تبقى التحديات كبيرة ومعقدة. فطبيعة الموارد المصرية، خاصة الرمال السوداء والتنتالوم والذهب، ترتبط بتركيزات منخفضة نسبيًا، ما يجعل عمليات الاستخراج والفصل والتكرير أكثر صعوبة وكُلفة، ويستلزم استثمارات ضخمة وبنية تحتية متقدمة وشراكات دولية محسوبة.


هذا بخلاف التحديات البيئية المرتبطة ببعض العناصر المشعة داخل هذه الموارد، وهو ما يتطلب التزامًا صارمًا بإجراءات الأمان والحماية، وإلا تحولت الثروة إلى خطر داخلي يهدد الصحة العامة والبيئة.


القوة الشاملة.. شرط أساسي لاستغلال الثروات
المعادلة الأهم، والتي تغيب أحيانًا عن البعض، هي أن الاستفادة من هذه الموارد ليست رهينة القدرات التكنولوجية وحدها، بل تتطلب أيضًا قوة عسكرية وأمنية تفرض سيطرة الدولة على مواقع الإنتاج، وتحميها من التهديدات الخارجية، خاصة في ظل وجود أطماع إقليمية وتحركات دولية لا تخفى على أحد.


التجربة المصرية في ملف الغاز الطبيعي شرق المتوسط تُجسد هذه المعادلة بوضوح، حيث لم يجرؤ أحد على الإعلان عن الاكتشافات الضخمة، وفي مقدمتها حقل ظهر، إلا عندما امتلكت مصر قدرات بحرية وعسكرية تسمح بتأمين الحقول وفرض السيادة الكاملة على حدودها الاقتصادية.


الأمر ذاته يتكرر اليوم في ملف المعادن الاستراتيجية، الذي بات امتلاكه، بل وحُسن إدارته، جزءًا من معادلة الاستقلال الوطني، وسلاحًا غير مباشر في معركة فرض القرار السيادي المصري بعيدًا عن ضغوط الكبار وتوازنات المصالح الدولية.


مصر.. معركة على الأرض والموارد والمستقبل
فلا غرابة إذن أن تتحرك مصر في هذا التوقيت، رغم ما تواجهه من أعباء اقتصادية وضغوط خارجية، نحو استغلال مواردها المحدودة، وإعلان مشروعات ذات عائد استراتيجي واضح، حتى وإن كانت مكلفة أو صعبة التنفيذ، لأنها ببساطة استثمار في المستقبل، وركيزة أساسية في معركة طويلة الأمد تفرضها ظروف الجغرافيا وتوازنات القوة.


إن من يتابع بوعي أخبار الذهب، الرمال السوداء، التنتالوم، أو أي مورد استراتيجي يُستخرج في مصر، عليه ألا ينظر للأمر بمعزل عن المشهد الدولي، ولا يعتبره مجرد خطوة اقتصادية عابرة، بل عليه أن يُدرك أن كل مشروع من هذا النوع هو جزء من معركة أوسع، تُحدد فيها الدول القادرة على امتلاك وإدارة مواردها مصيرها وسط عالم لا يعترف إلا بالقوة والموارد والنفوذ.


الموارد.. سلاح السيادة وبوصلة المستقبل
في معركة عالمية تُدار بعيداً عن أعين الشعوب، تتنافس الدول الكبرى على المعادن الاستراتيجية كما تتنافس على النفط والغاز. وفي هذا السياق، لم يعد الحديث عن استخراج الرمال السوداء أو اكتشاف الذهب مجرد خبر اقتصادي، بل خطوة سياسية واستراتيجية لها أبعادها الإقليمية والدولية.


ملف الموارد الاستراتيجية لم يعد شأنًا اقتصاديًا فقط، بل أصبح جزءًا من معادلة الأمن القومي المصري. ومع دخول الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا في سباق محموم على السيطرة على هذه الثروات، تجد مصر نفسها مطالبة بالموازنة الدقيقة بين: (الحفاظ على السيادة الوطنية، جذب الاستثمارات التكنولوجية، توسيع الصناعات المحلية، إدارة علاقات القوى الدولية بحذر وذكاء).


مصر التي تخوض معركة التنمية وسط تحديات اقتصادية وأمنية، تدرك أن امتلاك أدواتها وثرواتها هو السبيل للحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها. فالموارد، وإن كانت محدودة، تتحول مع التخطيط الواعي والتكنولوجيا الحديثة إلى ورقة ضغط وصناعة مستقبل.


مصر، برغم محدودية مواردها، تخوض هذه المعركة اليوم، بإصرار مدعوم بإرادة سياسية، ومساندة عسكرية، وتحرك اقتصادي محسوب، وكل خطوة في هذا الملف، مهما كانت صغيرة في ظاهرها، تحمل في طياتها أهمية استراتيجية تتجاوز مجرد الأرقام، لأنها ببساطة، معركة على الأرض، والموارد، والمستقبل.



أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب





الرجوع الى أعلى الصفحة