في الريف يوم الجمعة ليس كأي يوم، بل هو قصيدة تُكتب بعبير الفجر ونسمات الهواء التي تلامس الروح.
هناك، حيث تبعد الضوضاء والزحام عن صخب المدن، يتجلى جمال الجمعة في أبهى حلله، ويصبح الحضور في حضن الطبيعة تجربة لا تنسى.
هذا ليس خيالًا ينسجه الحالمون، بل حقيقة تعيشها عندما تقترب من الأهل والأقارب، ولي تجربة شخصية في ذلك بقريتي قرية شطورة، شمال محافظة سوهاج.
يوم الجمعة هناك مختلف تمامًا، يبدأ بأصوات المنشاوي وعبد الباسط ومصطفى إسماعيل، وتواشيح النقشبندي وطوبار التي تملأ الأجواء، كأنها نغمات تترنم بها الطبيعة نفسها.
مع شروق الفجر، تعبق رائحة الطعمية الساخنة، وتتصاعد روائح الخبز البلدي من الأفران المنزلية، وهو طقس أصيل يعانق كل ركن في القرية.
حركة السيدات تتسارع في البيوت، ينجزن مئة عمل في وقت واحد، تحضير الطعام، تجهيز ملابس الصلاة للرجال والأطفال، وتحضيرها قبل الاستحمام، بينما يتخلل ذلك صوت شوي البطاطا في فرن الخبز البلدي والدرة التي تبعث الدفء في المكان، تتمازج مع أصوات القرآن الكريم المتصاعدة من أجهزة الراديو والتلفزيون، فتخلق سيمفونية روحية تفوح بالسكينة.
عند وقت الظهر، يعود الجميع من الصلاة ليجتمعوا على مائدة واحدة، غذاء الجمعة الذي هو أكثر من مجرد وجبة، إنه احتفال باللمة وبالأسرة التي تعيد وصل ما انقطع في أيام الأسبوع.
الموظف الذي غاب عن أسرته طيلة الأيام، الأبناء المتزوجون الذين يبتعدون مسافات طويلة، كلهم يعودون إلى دفء البيت، إلى دفء اللقاء.
وعلى ضفاف النيل، تحلو الجلسات، حيث تصدح أم كلثوم بأحلى أغنياتها، وتزين الحقول الخضراء المشهد، فتسر الناظرين وتعانق القلوب.
يلتقي الشباب في ضحكاتهم، ويتجمع الأصدقاء والكبار والصغار، وتدور الأحاديث وكأن الزمن توقف ليستمع إلى حكايات من الماضي، مع أكواب الشاي التي تمنح الجلسات نكهة خاصة، تفتح أبواب الذكريات وتجمع القلوب.
هنا، في هذا الفضاء الذي تنسج فيه الطبيعة والإنسان قصة واحدة، يعيش الجميع يوم الجمعة كما لو كان عيدًا للحياة.
جمعة الريف ليست مجرد يوم في الأسبوع، بل هي لحن من ألحان الحياة التي لم تغب عنها بساطتها، ولا أذلتها التكنولوجيا، يوم لا يُنسى لأنه يعيد الروح إلى أصلها، ويجعلنا نُدرك أن السعادة تكمن في اللقاء، وفي تفاصيل بسيطة كالخبز الطازج، وأصوات التلاوة، وضحكات الأهل والأصدقاء.