ما زلنا مع الحديث عن الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة..
لماذا نَصِف التكفيريين فى عصرنا هذا بأنهم «خوارج هذا العصر»؟
من البديهى أن سبب هذا هو مدى تطابق فكر ومنهج التكفيريين المعاصرين مع فكر ومنهج حركة الخوارج، دعونا فيما يلى ننظر فى أبرز أوجه ذلك التطابق:
- أنا الدين والدين أنا
عبر التاريخ الإسلامى الطويل، ظهرت مذاهب وتيارات فكرية ودينية مختلفة ومتنوعة.. ما ميز الخوارج من بينها هو اختصارهم الدين فى أنفسهم، بحيث أنهم صاروا يعدون أنفسهم «المؤمنون حصريا»، وأن من سواهم كفار، حتى وإن كانوا من كبار الصحابة مثل الخليفتين عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما، وهما من هما علما ومقاما، وهذا يفسر اجتراء أصحاب المنهج التكفيرى على علماء الدين المعاصرين لهم إلى حد تكفيرهم بعضهم لمجرد الاختلاف.. ظهر هذا جليا فى موقف الخوارج من قيام الإمام على بإعمال عقله فى آيات الله ليستنبط الأحكام الشرعية، إذ اتهموه بالكفر لأنه-على حد قولهم-قد حكّم الرجال فى كتاب الله، فتهكم الإمام عليهم بأن أمسك المصحف وخاطبه قائلا: «يا كتاب الله احكم» ليدلل على أن لتطبيق شرع الله لا بد من استخراج الأحكام من كتابه.
وقد ناقض ادعاء الخوارج تكفير من يحكم الرجال فى كتاب الله قولهم للصحابى عبدالله بن خباب وهم يشيرون لمصحف يحمله: «نرى فى هذا الكتاب قتلك».. فقد سمحوا لأنفسهم بتحكيم عقولهم الفاسدة فى القرآن فقط فيما يؤيدهم.
- المظلومية
لا بد للتكفيرى من مظلومية يتخذها ذريعة لمعاداة المجتمع، كانت مظلومية الخوارج فى بدايتهم الأولى هى تصدُر قريش المشهد فى الإدارة والحكم، ثم تحويل بنى أمية الخلافة إلى مُلك عضوض، وانعكس هذا على فقههم الذى ألغى شرط قرشية النسب للخلافة بل وقالوا صراحة بتحبيذ ألا يكون الخليفة ذو نسب بقبيلة قوية ليسهل خلعه بل وقتله! أما فى زمن التوجهات الديموقراطية والمدنية فإن من أهم مكونات مظلوميتهم أن الأنظمة الحاكمة تطبق مبادئ، «غير إسلامية/ كفرية» للحكم، مما ينفى شرعيتها عندهم.. أى أن لا بد لهؤلاء القوم من مظلومية هدفها نزع الشرعية عن النظام الذى يعارضونه، وهو جزء من اتجاههم لتفكيك كيان الدولة نفسها بمؤسساتها، وهدمها، ولاحظ أن خطتهم لاغتيال أقوى ثلاث زعامات قرشية معاصرة لهم-على ومعاوية وعمرو بن العاص-كان هدفها هدم أركان الدولة لإسقاطها وإقامة دولتهم على ركامها.. كما أن خطابهم المعاصر يدين من ينتمون لأهم مؤسسات الدولة كالجيش والشرطة والقضاء وغيرها، وبالتالى فهم يستهدفون تلك المؤسسات وأفرادها باعتبار أن ذلك طريق لهدم الدولة..
- الخروج/الهجرة
حمل الخوارج اسمهم من منطلق «إخراج أنفسهم» من المجتمع.. فهو فى نظرهم مجتمع كافر وهجرهم له هو كهجرة المسلمين الأوائل من مكة إلى المدينة.. بالتأكيد فإن نزوع هؤلاء لهجر مجتمعاتهم إنما له دوافع أخرى أكثر عملية، مثل الابتعاد عن رقابة وقبضة السلطات، وتجنيب العناصر المجندة أية مؤثرات فكرية من شأنها إفساد عملية «برمجتهم» على الفكر التكفيري، والبحث عن حاضنة طبوغرافية لأنشطتهم يجدون فيها العون والدعم والحماية.. وهى نفس الدوافع لدى الحركات التكفيرية المعاصرة، ونضيف إليها دافع نفسى شديد الخبث: هو مداعبة حالة «الحنين إلى الماضى» عند من يسمعون عن هذا الماضى ويتمنون لو عادوا إليه بالزمن وشاركوا فى نضال الجيل الأول من المسلمين، فهجر المجتمع يوفر تلك التجربة للسُذَج الذين توقعهم الحركات التكفيرية فى شباكها، واستغراقهم فيها يمثل سحابة ضباب كثيفة فوق عقولهم.
- الاستهداف على الرأى
مخطئ من يعتقد أن استهداف التكفيريين للمخالفين لهم من أهل العلم والفكر والرأى هو ما ابتدعه التكفيريون المعاصرون، كاستهدافهم الأستاذ نجيب محفوظ واغتيالهم الشهيد دكتور فرج فودة وتكفيرهم الدكتور نصر أبوزيد، فالقارئ فى تواريخ الحركات المتطرفة يجد أن استهداف أصحاب الآراء المخالفة له من القدم ما له، ولا أتوقف هنا عند حركة الحشاشين التى كانت تستهدف العلماء والفقهاء بقدر ما تفعل مع الحكام والقادة، وإنما أرجع لحركة الخوارج نفسها.
فما كان من مناظرة الصحابى الجليل عبدالله بن عباس لكبار الخوارج وإفحامه إياهم، وما ترتب على ذلك من توبة عدد ضخم من اتباعهم وانفضاضهم عنهم، قد دق ناقوس خطر عند هؤلاء - وكل من اتبع فكرهم ومنهجهم بعد ذلك - فبادروا إلى التعرض للصحابى عبد الله بن خباب وسؤالهم إياه عما يختلف فيه معهم، ثم قتلهم إياه بعد ذلك، ولم تكن تلك الجريمة إلا بقصد ترويع وإرهاب كل مخالف لهم بأن اختلافه معهم يعنى سفك دمه.. فإفصاحه عن أوجه هذا الخلاف وتقديمه الحجج من شأنه أن يفعل فيهم فعل المنجنيق والمدفع فى أسوار القلاع.. وما كان اغتيالهم الإمام على بن أبى طالب بغرض إزاحته عن الحكم بقدر ما كان بغرض إسكات صوت عالم كبير يهدد بعلمه وعقله فساد فكرهم.
فليعيد القارئ العزيز قراءة هذه السلسلة من المقالات، وليبحث فيما سبق منها عن أوجه التشابه تلك بين الماضى والحاضر، ليعلم يقينا قدر ذلك التطابق بينهما، أو كما قال الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه عن الخوارج: «هم فى أصلاب الرجال وأرحام النساء».
تم.