في طرقات التاريخ الشاسعة، المتعرجة والمغبرة، والتي تمتد عبر القرون مثل أودية عتيقة شاهدة على سطوع دول وانكسار أخرى، يبقى سؤال جوهري يتردد صداه في جنبات الفكر الإنساني: ما العوامل التي ترفع أمة معينة إلى عوالم الازدهار والمجد، وتجعل أخرى تتعثر وتتقهقر نحو الانحطاط والمجهول؟ ليس هذا التساؤل وليد اليوم، بل هو هاجس أزلي أرق عقول الفلاسفة والحكماء منذ أن أنشأ الإنسان أولى اللبنات لنظام الدولة وتعدد أشكال السلطان.
قبل زمن سطوع الحضارة الأوروبية الحديثة بزمن بعيد، وفي مرحلة انتقال عصيبة عاشها عالم العرب بين أفول وعودة ونضوج وتخبط، كان هناك عالم تونسي فذ، اسمه عبد الرحمن ابن خلدون، وجد نفسه مضطراً إلى الاعتزال بعدما ضاقت به دروب السياسة وتقلباتها. جلس الرجل منهمكاً في دراسة أحوال البشر والممالك، ليكتب ما صار لاحقاً كتاباً لا يشبه غيره: "المقدمة". لم تكن صفحات ابن خلدون مجرد سرد للوقائع ولا وقوفاً على ظاهر الأحداث، بل كانت بمثابة تشريح دقيق لجسد الأمة وبحث متعمق في القوى السارية فيه التي تمنحه أسباب البقاء أو تدفعه نحو الفناء. وحدد ابن خلدون أن العنصر الأساسي الذي يمنح الدولة القدرة على النهوض أو يؤدي إلى تهاويها، هو ما أطلق عليه "العصبية".
العصبية، في مفهوم ابن خلدون، ليست فقط الانتماء القبلي أو الدموي، بل ذلك النسيج المتماسك من الروابط الاجتماعية والهوية الجماعية، الذي يمنح أفراد المجموعة الواحدة عزماً لا يلين عند الشدائد. تتجلى هذه العصبية في الصحارى، حيث الرياح العاتية والرمال الحارقة لا تترك للفرد خيار العيش منفرداً، فيغدو التماسك الجماعي شرط البقاء. هكذا تنبت القوة في الأطراف، وتتماسك تلك المجموعات حتى إذا اشتدت شوكتها داهمت مركز الدولة المترهل، وأزاحت عنه الغبار لتقيم على أنقاضه كياناً فتياً قادراً على بدايات جديدة. وتتشكل بذلك، على مر الزمن، دورة الحياة والموت وتتعاقب الدول.
في بداية الدورة، حينما تصل العصبية إلى الحكم، تحافظ على صلابتها وحرصها على العدالة وصيانة الأمن وتخفيف الأعباء عن الناس، مما ينعكس ازدهاراً في العمران، وتوسعاً في الأسواق، ورخاءً في حياة العامة. لكن تعاقب الأجيال يقلب الموازين؛ يفد جيل جديد وُلد في بيوت الحكم، لا يعرف عن كد السعي الأولى وخشونة التأسيس شيئاً، فيميل للدعة ويألف الترف، فيضعف بذلك عزم المجتمع ويبقى ظاهره متماسكاً فيما يتآكل باطنه. وفي الجيل الثالث، تؤول العصبية إلى الاضمحلال، فيسود التكالب على المصالح الشخصية، وتنشأ الانقسامات، ويتثاقل الحاكم على الناس بالضرائب ليغذي بذخه وجنده، وقد يدخل مجال الرزق لينافس الحرفيين والتجار، حتى تتراجع الحركة الاقتصادية ويصاب المجتمع بالجمود، وتصبح الدولة ضعيفة تنتظر من يقضي عليها. وهكذا، تعود العصبية الفتية من جديد لتدخل الحلقة ذاتها وتعيد بناء الدولة.
وهذا كله لم يكن، في نظر ابن خلدون، مجرد دورة اجتماعية، بل كان بياناً أن قوة الدولة لا تكمن في الخزائن وحجم الذهب والفضة، بل في المجتمع النشط المنتِج، وفي وجود العدل والحرص على حماية الملكية الفردية واحترام مصالح الناس. وقد أشار أيضاً إلى أن فاعلية المؤسسات نفسها رهينة بمدى حيوية العصبية، إذ أن الحكم العادل النابع من عصبية قوية يدفع الرعية إلى العمل والمبادرة، فيما الحكم الجائر المرتبط بعصبية ضعيفة يؤدي إلى انكماش النشاط وإفقار الأمة.
ومرت الأعوام والقرون، حتى طوت الأيام ذكرى ابن خلدون وشرعت الإنسانية فصلاً جديداً في عصر التنوير الأوروبي. وقد بزغت في الغرب روح جديدة تؤمن بقدرة الإنسان على تغيير مجرى مصيره بإرادته وقوة عقله. في فرنسا، ظهر البارون دي مونتسكيو، الذي عكف على دراسة تجارب الأمم، فلفتته التجربة الإنجليزية ومبادئها الدستورية، فخرج بفكرته الشهيرة حول فصل السلطات: يجب ألا تتركز سلطة التشريع والتنفيذ والقضاء في يد واحدة، لأن ذلك يفضي إلى الاستبداد وغياب الحرية. اعتبر مونتسكيو أن المجتمع الحر المنظم لا ينبني فقط على القوانين، بل على وجود توازن دقيق بين السلطات، بحيث تكبح إحداها جماح الأخرى، وتكون الضمان الأسمى ضد الطغيان.
غير أن مونتسكيو لم يغفل جانبا آخر مؤثرا في مصائر الشعوب، فتساءل عن أثر الطبيعة والمناخ على شكل الحكم ومزاج المجتمع، وذهب إلى الربط بين حرارة الطقس في الشرق واستقرار الاستبداد، وبين المناخ المعتدل في أوروبا الحافز على الحرية والانفتاح. بذلك وضع تصوراً مزدوجاً، جوهره التفاعل بين خيار الإنسان في بناء المؤسسات، وإكراهات الجغرافيا والمناخ التي ترسم أفق الاحتمالات.
وفي زمن قطف الثمار، وعندما كانت أمريكا تعلن استقلالها وتشق طريقها كأمة فتية، ظهر في أقصى شمال أوروبا رجل اسمه آدم سميث، ليحدث قطيعة في الفكر الاقتصادي بمؤلفه "ثروة الأمم". فنّد سميث التصور السائد بأن الغنى يكمن فيما تجمع الدول من معادن ثمينة، مبيناً أن الثروة الحقيقية إنما هي حاصل عمل البشر، وما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات متنوعة تجلب الرخاء لهم جميعا. بين دفتي كتابه، أبرز أهمية تقسيم العمل: حين ينخرط كل عامل في مهمة محددة، تتضاعف قدرته الإنتاجية وتنتظم العمليات الاقتصادية بشكل مدهش. ومع ذلك، أوضح أن الرخاء يتطلب تراكم رأس المال من أجل الاستثمار في الآلات والتجديد المستمر.
ولعل أبرز صورة في فلسفة سميث كانت فكرة "اليد الخفية" التي تنظّم المصالح الفردية للناس في السوق، وتجعل سعي كل فرد وراء مصلحته الخاصة يصب في مصلحة الجميع بلا تخطيط مسبق من أحد. فالجزار حين يسعى للربح، يقدم لحماً جيداً بسعر معقول حفاظاً على زبائنه، والمسؤولية هنا لا تقع على الأخلاق الفردية فقط، بل على بنية النظام الاجتماعي الذي يحتاج، كما شدد سميث، إلى دولة قوية تحمي العدالة، وتصون حقوق الملكية، وتوفر الأمن والطرقات والتعليم.
وبذلك سار التنوير الأوروبي يورث الأزمنة القادمة أسئلة أعمق مما يورثها أجوبة، وترك الأجيال تتأرجح بين رغبة الإنسان في تشكيل حاضره ومستقبله بقوة الإدراك والمؤسسات، وبين القيود الطبيعية والحتمية التي رسمتها الأرض والمناخ عبر التاريخ الطويل. مما جعل هذا الصراع الأساسي، حول إرادة المصير الفردي أو الجماعي، هو السمة البارزة التي استمرت تتفاعل حتى القرون الحديثة، تفرز فصولاً جديدة من البحث والتأمل في تاريخ الأمم وصعودها وسقوطها.
وللحديث بقية ..