شريف عارف

"كينج فخرانى".. عودة لأمجاد المسرح المصرى

الخميس، 17 يوليو 2025 04:00 م


عظمة العملاق يحيى الفخرانى لا تكمن فقط فيما قدمه من دراما على مدى أكثر من نصف قرن، لكنها تكمن فى قدرته - أمد الله فى عمره - على أن يضرب المثل ويعطى القدوة ليس فى عطاء جيل العظماء فقط، ولكن للأجيال القادمة.

الدكتور يحيى الفخرانى الذى قدم أعظم الأعمال المحفورة فى الوجدان المصرى على مدى خمسة عقود أمتع فيها المشاهد المصرى والعربى، يقف اليوم على خشبة المسرح القومى، ليعطى الدرس ليس لأبناء مهنته، ولكن للشعب المصرى كله على أن العمل لا يتوقف عند سن معين، وأن أصحاب الرسالة يؤدون رسالتهم دائما حتى اللحظة الأخيرة.

الرسالة المهمة، التى يبعث بها يحيى الفخرانى بإصراره وتمسكه بدقة العمل والمواعيد والالتزام هى رسالة من قلب القاهرة، ومن ميدان العتبة حيث مقر المسرح القومى قلعة الفن المسرحى على مدى أكثر من قرن من الزمان، مفادها أن مصر -لا زالت وستظل- بلد الفن والإبداع والقيم والتقاليد، وأن عبقرية الشعب المصرى قائمة، وأن حيوية فنه لا زالت متواجدة ومؤثرة وبقوة.

عرض مسرحية "الملك لير" على خشبة المسرح القومي، يمثل حدثا فنيا وثقافيا فارقًا، ليس فقط لأنه يعيد تقديم واحدة من أعظم كلاسيكيات الأدب العالمى للكاتب الإنجليزى ويليام شكسبير، بل لأنه يُمثل إعلانًا صريحًا عن عودة المسرح القومى إلى موقعه الطبيعى فى قلب المشهد الثقافى المصرى والعربى، بعد سنوات من التراجع والتهميش وغياب الهوية.

فى اعتقادى أن هذا العرض جاء فى توقيت بالغ الأهمية، ويحمل دلالات تُؤكد أن المسرح المصرى لم يعد متفرجًا على التحولات الاجتماعية والسياسية فقط، بل قرر أن يعود منبرًا فاعلًا يُشارك فى تشكيل الوعى الجمعى العام، من خلال أعمال مسرحية تتسم بالعمق الإنسانى والجمالى، كما يظهر بوضوح فى "الملك لير".
هذا الإنتاج يندرج ضمن رؤية استراتيجية يقودها المخرج الكبير هشام عطوة رئيس البيت الفنى للمسرح، والدكتور أيمن الشيوى مدير المسرح القومى، وتهدف إلى عودة المسرح لمكانته التاريخية كمنارة للتنوير والإبداع.

لم يكن اختيار "الملك لير" مجرد مصادفة، بل نتاج إدراك حقيقى لما يحمله النص من أبعاد إنسانية وفكرية تصلح لإعادة قراءة الواقع والمجتمع، وفى قلب هذا الحدث يقف النجم الكبير يحيى الفخرانى مجسدًا شخصية الملك لير أو "كينج لير"، تلك الشخصية التى تمثل قمة التراجيديا فى الأدب الشكسبيرى.

بأداء يتسم بالصدق والعمق، جعل الفخرانى الجمهور يعيش آلام الملك، انكساراته، وصراعاته مع أبنائه ونفسه.

الفخرانى، الذى قدّم العمل لأول مرة عام 2001، ثم فى نسخة ثانية عام 2019، يعود فى 2025 ليؤكد نضجه الفنى وتطوره، وهو ما علّق عليه بقوله: "فى كل مرة أقدّم فيها (الملك لير)، أكتشف شيئًا جديدًا فى النص… هذه المرة أقترب فعليًا من العمر الحقيقى للملك، ما جعل الأداء أكثر صدقًا وإنسانية".

الإبهار البصرى والتكامل الفنى كانا بطلى العرض مع " كينج فخرانى"، من خلال رؤية المخرج شادى سرور، الذى نجح فى المزج بين العمق الدرامى للنص والإبداع البصرى على مستوى الإضاءة، والديكور، والملابس.

العرض لم يعتمد فقط على النص الشكسبيرى، بل قدّمه برؤية متجددة تحاكى حاضرنا وتُخاطب ذوق الجمهور اليوم.

فى هذا العرض البديع تألقت مجموعة كبيرة من الفنانين إلى جانب الفخرانى، من بينهم طارق دسوقى، أمل عبد الله، إيمان رجائى، وحسن يوسف، فى أداء جماعى متماسك عكس نضج التجربة المسرحية وقوة الفريق.

وتدور أحداث "الملك لير" حول ملك مسنّ يقرر تقسيم مملكته على بناته الثلاث: جونريل، ريجان، وكورديليا، وفقًا لمدى حب كل منهن له، بينما تتملق الأختان الكبيرتان والدهما بكلمات منمّقة، ترفض كورديليا أن تجامل، معلنة أن حبها لا يحتاج إثبات أو مبالغات لفظية، فيثور الملك ويقصيها، ليجد نفسه ضحية خيانة الابنتين الأخريين، ويقع فريسة للعزلة والجنون.

هذه التراجيديا الإنسانية تطرح تساؤلات وجودية حول الحب الحقيقى، والخيانة، والسلطة، والمصير، ما يجعلها نصًا خالدًا يتجاوز الزمان والمكان.
مع انطلاق عروض المسرحية أواخر يونيو 2025، بدأ الجمهور يتطلع، ويتدفق على خشبة المسرح القومى، فى مشهد أعاد للأذهان بريق الزمن الجميل.
الإقبال الجماهيرى الواسع يعكس تعطشا حقيقيا للمسرح الراقى، خاصة فى ظل التراجع الذى شهده المسرح خلال السنوات الماضية أمام موجة الإنتاج الدرامى، ويطرح هذا النجاح سؤالًا مهمًا: هل تكون "الملك لير" بداية فعلية لعودة ريادة المسرح المصرى؟
فى سياق آخر، يواصل البيت الفنى للمسرح رسالته فى الدورة الثامنة عشرة من المهرجان القومى للمسرح المصرى (20 يوليو – 6 أغسطس 2025)، بعدة عروض أخرى من إنتاج فرقته، من بينها "كارمن"، "يمين فى أول شمال"، "سجن النسا"، و"فندق العالمين"، ما يؤكد استمرار الزخم المسرحى خلال هذا الموسم.
عودة "الملك لير" إلى المسرح القومى بقيادة "كينج فخراني" ليست مجرد إعادة عرض لنص كلاسيكي، بل هى "محطة مسرحية"  فارقة تُعيد ترتيب الأوراق"، والتأكيد على أن المسرح لا يزال قادرًا على مخاطبة جوهر المشاهد، وأن الكلمة الصادقة، حينما تُقدّم بفن وحرفية، يمكنها أن تحرك القلوب وتفتح العقول، وتصنع رؤية حقيقية لهذا الوطن.

Sherifaref2020@gmail.com




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب