مصطفى المنشاوى

مأسسة الفتوى أمن قومي

الثلاثاء، 03 يونيو 2025 02:43 م


في أحد حواراتي مع فضيلة مفتي الديار المصرية السابق، الدكتور شوقي علام، طرحت عليه سؤالًا يفرضه الواقع الديني المعاصر في مصر:

“لدينا مؤسسات دينية كبرى تتمثل في دار الإفتاء المصرية، والأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء، ووزارة الأوقاف… فهل ثمة تناغم وتناسق بينها؟ وهل تتبع هذه الجهات منهجية واحدة؟ أم أن هناك جهة بعينها تملك دون غيرها حق الفتوى؟”

بهدوء العالم الواثق، أجاب فضيلته:
“نحن لا نعيش في جزر منعزلة، بل في منظومة متكاملة، تقوم على التكامل لا التنافر، والتنسيق لا التنازع.”

كانت هذه الإجابة بمثابة تأكيد على أن التعدد المؤسسي لا يعني بالضرورة الازدواجية أو التضارب، بل هو صورة من صور النضج الذي تحتاجه أي دولة حديثة تُدرك قيمة الدين، دون أن تسمح بتحوله إلى ساحة فوضى أو سلاح صراع.

في هذا السياق، تكتسب مأسسة الفتوى في مصر دلالة أكبر من مجرد تنظيم إداري، إنها محاولة جادة لإعادة الفتوى إلى مقامها الحقيقي، بوصفها صناعة فكرية دقيقة، لا اجتهادًا شعبويًا يُلقى على منصات التواصل أو يُبث عبر موجات التطرف.

لقد عانت مصر — كغيرها من دول العالم الإسلامي — من فوضى فتاوى عابرة للقارات، تصدرها أصوات بلا مرجعية، وأهواء ترتدي عباءة الدين. فتاوى تُكفّر المختلف، وتشرعن القتل، وتحكم على النوايا، وتُغلق أبواب الاجتهاد وتفتح أبواب الجحيم. في خضم هذا الانفلات، جاءت مأسسة الفتوى كمشروع وطني وأخلاقي، لحماية الدين من الابتذال، ولاستعادة الخطاب الإسلامي الصحيح الذي انتشر من الهند إلى الأندلس على المحيط الأطلنطي عن طريق التجار، تحت شعار: “الدين المُعاملة”.

ولذا نجد أن أكثر الفصول قتامة في فوضى الفتوى، فتاوى التكفير. تلك الأحكام المُعلّبة التي تُوزَّع على الناس؛ بلا علم ولا تحقق. مشهد عبثي تتكرر فيه المأساة بصيغ دينية متضادة، ولكنها تتلاقى في منتهى العنف:

“هذا يذبح بالتوراة، وهذا يذبح بالإنجيل، وهذا يذبح بالقرآن… لا ذنب بطبع الأديان، الذنب بطبع الإنسان.”

التكفير ليس رأيًا، بل حكمًا بالإعدام، يُنفّذ رمزيًا أو فعليًا. ومأسسة الفتوى جاءت لتوقف هذا النزيف، وتعيد الفتوى إلى يد أهلها، المؤهَّلين علمًا وضميرًا، القادرين على التفريق بين النص وسوء تأويله، بين الثابت والمتغير، بين الدين والتديُّن.

دار الإفتاء المصرية، بمركزها العالمي للفتوى، ومرصدها لرصد الفتاوى التكفيرية، والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ خطاب ديني راشد، يتحدث بلغة الناس ويتفاعل معهم دون أن يتنازل عن جوهر العلم.

ولكن؛ لا يكفي أن نبني المؤسسات، بل علينا أن نحمي استقلالها العلمي، ونُطوّر أدواتها، ونضمن تفاعلها مع تحديات العصر: من قضايا الأسرة، إلى الذكاء الاصطناعي، إلى تحولات القيم. فتوى اليوم لا تُجاب فقط من على كرسي في مسجد، بل من خلف شاشة هاتف، وفي قلب معترك اجتماعي معقد.

وفي خطوة تشريعية طال انتظارها، أقر مجلس النواب قانون تنظيم الفتوى الشرعية، في لحظة توافق نادرة بين المؤسسات الدينية الكبرى: الأزهر الشريف، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف.
و بهذا القانون، تُستكمل ملامح مشروع مأسسة الفتوى، وهو خطوة على طريق ترسيخ الأمن الفكري، وترتيب البيت الديني من الداخل، بما يليق بمكانة مصر التاريخية في قيادة العالم الإسلامي بالعلم لا بالصوت العالي.

وفي النهاية، تبقى الفتوى الرشيدة، المؤسَّسة، المنضبطة، أولى أدوات النصر في معركة الوعي. فتوى لا تُقصي، ولا تُكفّر، بل تُرشد وتبني، وتُعيد للدين هيبته، وللإنسان كرامته.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة