لماذا يبدو أطفال العصور الوسطى في اللوحات كرجال صلع؟

الأحد، 29 يونيو 2025 06:00 ص
لماذا يبدو أطفال العصور الوسطى في اللوحات كرجال صلع؟ اللوحة الفنية

بسنت جميل

إذا أمعنا النظر في اللوحات الأوروبية التي تعود إلى العصور الوسطى، لا بد أن يتبادر إلى أذهاننا سؤال محير، ما الذي يحدث لهؤلاء الأطفال؟ بعيدًا عن صور الملائكة الصغار الممتلئين كما قد نتوقع، كثيرًا ما يصور الأطفال في تلك الحقبة بملامح متجهمة، وجباه عريضة، وتعابير تشبه وجوه رجال في منتصف العمر، فما الذي يفسر هذا التوجه الفني الغريب.

لفهم ذلك، لا بد أن نتعمق في تطور الفن الأوروبي، وخصوصًا النظرة إلى الأطفال، من العصور الوسطى وصولًا إلى عصر النهضة.

خلافًا لما قد يبدو، لم يكن هذا "الرجل الطفل" المزعج في فن العصور الوسطى نتيجة لسوء في المهارة أو ضعف في إدراك الشكل الإنساني، بل كان تصويرًا مقصودًا، تشكل وفقًا للمعايير الفكرية والدينية لتلك الفترة، والتي تعرف تقليديًا بأنها تمتد من القرن الخامس حتى القرن الثالث عشر الميلادي.

اللوحة الفنية
اللوحة الفنية

من أبرز هذه الأفكار كان مفهوم "الهومونكولوس" (Homunculus)، وهو مصطلح لاتيني يعني "الرجل الصغير"، وقد أثر هذا المفهوم بشكل مباشر على كيفية تصوير الطفل المسيح، إذ كان يرسم في كثير من الأحيان بملامح رجل بالغ، وحتى بعلامات الصلع الذكوري، جاءت هذه الرؤية انطلاقًا من الاعتقاد بأن المسيح بصفته إلهيًا، ولد كامل التكوين ولم يتغير منذ ولادته  وهو ما يعرف بمفهوم " المسيح البشري".

بمرور الوقت، تسرب هذا الأسلوب اللاهوتي إلى تصوير الأطفال عمومًا، لا سيما أن معظم مشاهد الطفولة في فن العصور الوسطى كانت دينية الطابع، تركز على الطفل المسيح أو أحيانًا أطفال القديسين، وهكذا أصبح تصوير الأطفال كراشدين مصغرين هو القاعدة.

لم يكن هناك اهتمام كبير في تلك الحقبة بالدقة التشريحية أو الواقعية، فقد التزم فنانو العصور الوسطى بمعايير صارمة تعلي من الرمزية والرسائل الروحية على حساب التمثيل الواقعي، وكانت هذه الأعراف تهمش الفردانية؛ إذ كثيرًا ما بدا الكبار والصغار على حد سواء متشابهين من حيث الشكل والتعبير.

كما أن الرسامين لم يتمتعوا بحرية فنية كبيرة؛ إذ عمل معظمهم تحت إشراف الكنيسة أو بتوجيه من نماذج تقليدية متوارثة، حتى وإن رغب أحدهم في تقديم صورة أكثر دقة وواقعية، لم يكن ذلك مقبولًا أو متاحًا ضمن السياق الديني السائد.

ونتيجة لذلك، يصعب في كثير من لوحات العصور الوسطى تمييز الأطفال عن البالغين بعضهم يبدو ضخمًا أو صغيرًا بشكل غير متناسب، وآخرون يظهرون كبالغين منكمشين بملامح شاحبة وعابسة.

لكن مع بداية القرن الرابع عشر، بدأت الأمور تتغير، فقد مثل عصر النهضة  وهو حركة فكرية وثقافية انطلقت من فلورنسا في إيطاليا  نقلة نوعية في الطريقة التي ينظر بها إلى الإنسان والطبيعة والفن، بدأ الفنانون يقبلون على تصوير العالم كما هو، كما يجب أن يكون وفق القواعد الرمزية والدينية.

هذا التحول لم يكن فجائيًا أو شاملاً، إذ لا تزال بعض الأعمال من عصر النهضة تحمل آثارًا من الأساليب القديمة، كما أن انتشار هذا التغيير لم يتم بالتساوي في جميع أنحاء أوروبا،ولكن تأثير النهضة كان عميقًا وطويل الأمد، بما في ذلك في تصوير الأطفال.

أحد العوامل الأساسية في هذا التحول كان صعود الفن العلماني. فمع تزايد ثروة ونفوذ الطبقة المتوسطة في فلورنسا، بات بمقدور المزيد من الناس طلب لوحات شخصية لأسرهم، بما في ذلك أطفالهم، ومن الطبيعي أنهم لم يرغبوا في رؤية أطفالهم وقد صوروا على هيئة رجال عابسين وصلعاء.

هذا الطلب ساعد على تغيير الأعراف الفنية، وأدى إلى ظهور تمثيلات أكثر دفئًا وواقعية للأطفال، حتى صور الطفل المسيح بدأت تأخذ ملامح أكثر نعومةً وبراءة، بعيدًا عن الجدية الصارمة التي طبعت رسوم العصور الوسطى.

بدأ الفنانون في عصر النهضة يدرسون علم التشريح، ويراقبون الأطفال الحقيقيين، ويستلهمون من النحت الكلاسيكي اليوناني والروماني، وهكذا ولدت مفردات بصرية جديدة: خدود ممتلئة، عيون لامعة، شعر مجعد، وتعابير بريئة، لم يكن الهدف فقط محاكاة الواقع، بل تقديم نسخة مثالية منه  أطفال أقرب إلى الملائكة منهم إلى البشر.

بالتوازي مع هذه التغييرات الفنية، بدأ المجتمع يغير نظرته إلى الطفولة. ورغم أنه من الخطأ افتراض أن عائلات العصور الوسطى كانت أقل حبًا لأطفالها، إلا أن عصر النهضة حمل تيارًا فلسفيًا جديدًا يرى في الأطفال كائنات بريئة بطبيعتها، لا تشوبها الخطيئة ولا الخبرة الدنيوية.

ومع تطور هذه الرؤية الإنسانية للطفل، تطورت معها تمثيلات الأطفال في الفن، لم تعد البراءة والطفولة مجرد سمات جمالية، بل باتت تعبيرًا عن قيم ثقافية أعمق تتعلق بالأسرة والتربية والمجتمع.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة