الأقباط يحتفلون بذكرى افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.. حدث تاريخي عالمى حضره جمال عبد الناصر وإمبراطور إثيوبيا.. تزامن الاحتفال مع استقبال رفات القديس مارمرقس الرسول.. وأستاذ تاريخ كنسى يروى تفاصيل الحفل

الخميس، 26 يونيو 2025 03:00 م
الأقباط يحتفلون بذكرى افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.. حدث تاريخي عالمى حضره جمال عبد الناصر وإمبراطور إثيوبيا.. تزامن الاحتفال مع استقبال رفات القديس مارمرقس الرسول.. وأستاذ تاريخ كنسى يروى تفاصيل الحفل ذكرى افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية

محمد الأحمدى

 

 

في قلب العاصمة المصرية، تقف الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالعباسية شامخة، تحمل بين جدرانها ليس فقط عبق التاريخ المسيحي المصري، بل أيضًا قصة وطنية عظيمة، تروى للأجيال عن التلاحم بين الدولة والكنيسة، وعن مرحلة مفصلية في تاريخ الأقباط في مصر.

تُعد الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، المقر البابوي الرسمي لبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ عام 1968، وقد شُيّدت على أرض دير الأنبا رويس، أحد أقدم المواقع القبطية في القاهرة، والذي كان يعرف قديمًا باسم دير الخندق. ويُذكر أن هذه الأرض أُهديت للكنيسة القبطية في القرن العاشر الميلادي، بقرار من الدولة الفاطمية، كتعويض عن أراضٍ صودرت أثناء بناء قصر الخليفة المعز لدين الله الفاطمي. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه البقعة المباركة نقطة إشعاع روحي وثقافي للكنيسة القبطية.

مع بداية الستينيات، ومع ازدياد أعداد الأقباط واتساع نشاط الكنيسة القبطية، لم تعد الكنيسة المرقسية بالأزبكية – التي كانت مقرًا بابويًا منذ القرن التاسع عشر – قادرة على استيعاب المهام الرعوية والإدارية المتزايدة. هنا بدأت ملامح مشروع ضخم تتبلور في ذهن البابا كيرلس السادس، الذي أراد أن يخلّد الكنيسة القبطية بمعلم معماري كبير يليق بمكانتها، ويكون أيضًا رمزًا للتجديد والانفتاح في العصر الحديث.

وفي صباح الرابع والعشرين من يوليو عام 1965، أُقيم احتفال وطني كبير لوضع حجر الأساس للكاتدرائية الجديدة، حضره الرئيس جمال عبد الناصر، الذي ألقى كلمة تاريخية تُعد حتى اليوم وثيقة سياسية وروحية، أكد فيها على أن ثورة يوليو قامت على المحبة والمساواة، وليس على التعصب، قائلًا: "حينما فاتحت البابا كيرلس في بناء الكاتدرائية، لم يكن قصدي المساهمة المادية، بل المعنوية؛ فالمحبة والمساواة هما جوهر الأديان". وأثارت كلماته موجة من الهتافات من الحاضرين: "عاش جمال.. عاش البابا"، و"يحيا الهلال مع الصليب".

أُجريت مسابقة معمارية شارك فيها عدد من المهندسين المصريين، وانتهت باختيار تصميم الدكتور عوض كامل فهمي، عميد كلية الفنون الجميلة حينها، إلى جانب المهندس سليم كامل فهمي، وبتنفيذ إنشائي من شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة "سبيكو"، تحت إشراف المهندس ميشيل باخوم، أحد أعمدة الهندسة الإنشائية في مصر والعالم العربي.

23642-مراسم-الافتتاح
مراسم الافتتاح

وتميز التصميم بأنه يجمع بين الطابع القبطي الأصيل والطراز العصري، فجاء مبنى الكاتدرائية على شكل صليب، بطول يبلغ 144 مترًا وعرض 61 مترًا، وقبة واحدة ضخمة ومنارتين شامختين. وقد صُمم ليضم إلى جانب الكنيسة الرئيسية، سبع كنائس فرعية، ومقرًا للمجمع المقدس، وقاعات إدارية ومكتبة ومزارًا لرأس القديس مارمرقس.

وفي صباح الخامس والعشرين من يونيو عام 1968، أقيم احتفال افتتاح الكاتدرائية، وسط حضور دولي واسع، تقدمه الإمبراطور هيلا سلاسي، إمبراطور إثيوبيا، وعدد من رؤساء وممثلي الكنائس من مختلف أنحاء العالم، من اليابان والفلبين شرقًا إلى كندا وأمريكا غربًا. كما حضر 172 صحفيًا ومراسلًا أجنبيًا، ونقلت الكلمة الرسمية للرئيس عبد الناصر والبابا كيرلس السادس إلى العالم بـ 12 لغة.

لكن الحدث الأهم الذي تزامن مع افتتاح الكاتدرائية، كان استقبال مصر لرفات القديس مارمرقس الرسول، مؤسس الكرسي الإسكندري، الذي بقي في مدينة البندقية بإيطاليا نحو أحد عشر قرنًا. وقد تمت إعادة الرفات بجهود مكثفة من البابا كيرلس السادس والكنيسة القبطية، لتوضع داخل الكاتدرائية الجديدة في مزار خاص، ولتصبح الكاتدرائية مركزًا للحج الروحي للأقباط في مصر والعالم.

 

39079-الرئيس-جمال-عبدالناصر-فى-افتتاح-الكاتدرائية
الرئيس جمال عبدالناصر فى افتتاح الكاتدرائية

ويحكي القمص يوسف تادرس، أستاذ التاريخ الكنسي، عن لحظة إزاحة الستار، أن الرئيس عبد الناصر شعر ببعض التعب خلال الافتتاح، فاقترب منه البابا كيرلس وسأله إن كان بخير، فأجابه قائلاً: "مفيش، شوية تعب"، فعرض البابا تأجيل الاحتفال، لكن عبد الناصر قال: "لا.. لازم نفرح الناس"، في إشارة إلى أهمية هذه اللحظة في تاريخ مصر.

بلغت تكلفة بناء الكاتدرائية حينها نحو 150 ألف جنيه، تبرع الرئيس عبد الناصر بجزء كبير منها، وهو ما عبّرت عنه الإذاعة المصرية في نقلها المباشر للحفل.

ومنذ افتتاحها، أصبحت الكاتدرائية المرقسية ليست فقط مقرًا للبابا، بل رمزًا للهوية الوطنية المصرية، حيث احتضنت أحداثًا كبرى، منها قداسات الأعياد، وجلسات المجمع المقدس، واستقبال الرؤساء والضيوف الأجانب، كما كانت شاهدًا على أحداث مأساوية مثل تفجير الكنيسة البطرسية المجاورة في ديسمبر 2016، والذي راح ضحيته عشرات الشهداء.

 

92978-وصول-الرئيس-جمال-عبدالناصر
وصول الرئيس جمال عبدالناصر

وخلال الاحتفال باليوبيل الذهبي في عام 2018، أُجريت أعمال ترميم وتجديد شاملة للكاتدرائية، بإشراف البابا تواضروس الثاني، الذي أكد أن "الكاتدرائية ليست فقط بيتًا لله، بل بيتًا للوطن كله".

واليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على افتتاحها، تظل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية صرحًا معماريًا وروحيًا وإنسانيًا، يجسد في كل تفاصيله عمق الانتماء المصري، والتاريخ الطويل من التعايش والمحبة بين أطياف المجتمع. إنها ليست مجرد مبنى حجري، بل قصة وطن يتنفس من خلال الإيمان، ويبني مجده بتكاتف أبنائه، مسلمين ومسيحيين، في وحدة أرضها الحب ومصيرها العدل والمساواة.

ذكرى فتتاح الكاتدرائية المرقسية
ذكرى افتتاح الكاتدرائية المرقسية

 



أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب





الرجوع الى أعلى الصفحة