نعيش واحدة من أكثر اللحظات توترًا في الشرق الأوسط، فقد دخلت أمريكا الحرب ضد إيران بشكل سافر، وكشفت عن انحيازها التام لجيش الاحتلال، وخرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليعلن تنفيذ ضربة عسكرية على ثلاثة من أبرز المواقع النووية الإيرانية (فوردو، ونطنز، وأصفهان)، ولأن الحروب دائما بها جانب يعتمد على الخطابات وتحليلها، لذا سنتوقف مع خطاب ترامب الذي جاء بعد الهجوم، ونعتمد فى ذلك على ترجمة الخطاب المنشورة في الموقع والصحف وعلى السوشيال ميديا:
أولا: أغراض الخطاب:
جاء الخطاب محملاً بالعديد من الأغراض، منها ما هو سياسي مباشر، ومنها ما هو رمزي ودالٍ، ومن ذلك:
الإخبار والتصريح:
في ظاهره، يقدّم الخطاب معلومات تفصيلية عن العملية العسكرية، المواقع المستهدفة، ونتيجتها "الناجحة"، وفق وصفه، فهو يعلن ويؤرّخ ويوجه رسالة أولى مفادها أن واشنطن قادرة على الوصول إلى عمق المنشآت النووية الإيرانية وإصابتها دون خسائر.
التهديد والتحذير:
يمضي ترامب مهدداً إيران بضربات "أوسع وأكثر دقة"، فى حال لم ترضخ للدعوة إلى السلام، وهو سلام مشروط من طرف واحد، يُعرَض بلغة سلطوية، ويُؤطَّر بمعادلة قاسية: "السلام أو المأساة".
التمجيد بالقوة العسكرية الأمريكية:
يضع ترامب الجيش الأمريكي فى موقع أسطوري "لا جيش فى العالم قادر على اتخاذ مثل هذه الخطوة"، يخلق صورة لأمريكا كقوة مطلقة، ذات تفوق تقني وميداني، لا يجاريها أحد.
دعم إسرائيل:
في تحالف لا مواربة فيه، يعلن ترامب أن إسرائيل كانت على علمٍ مسبقٍ، ويقول بوضوح: "أخذنا على عاتقنا حماية إسرائيل"، هذا التصريح يضع الضربة ضمن سياق إقليمي أوسع، حيث تتقاطع الضربات الأمريكية مع التهديدات المتبادلة بين إيران وإسرائيل.
فرض شروط سياسية
السلام الذي يطرحه ترامب ليس سلامًا تفاوضيًا، بل مشروطًا بنزع القدرات النووية الإيرانية، وهو ما يعيد تعريف معادلة الشرق الأوسط سياسيًا وأمنيًا، ويمنح واشنطن دورًا حاسمًا في هندسة التوازنات.
التأثير في الداخل الأمريكي:
الخطاب يخاطب الداخل الأمريكي أيضاً، حيث يقدم ترامب نفسه بوصفه قائداً يملك جيشاً قوياً، يحقق انتصارات بلا خسائر، هذا النمط مألوف فى خطابات ترامب الانتخابية، حيث يُستخدم الملف الإيراني كورقة لإبراز الكفاءة السياسية والعسكرية.
ثانيًا: وسائل الإقناع والتأثير
اعتمد ترامب على تقنيات تأثير مدروسة، بعضها مألوف فى خطابه السياسي، وبعضها مبني على أدوات الحرب النفسية والدبلوماسية:
الجمل الحماسية:
من خلال عبارات مثل "نجاح عسكري رائع"، و"جميع الطائرات عادت بسلام"، يصنع ترامب صورة رجل الدولة الحاسم، الذي يتحدث بثقة مطلقة.
التهويل والترهيب:
الإشارة إلى استخدام "30 طنًا من القنابل"، والتلويح بضربات مستقبلية أكثر قسوة، يهدف إلى خلق حالة رعب موجهة نحو القيادة الإيرانية، وكذلك نحو خصوم ترامب في الداخل والخارج.
ثنائية "السلام أو المأساة":
هي حيلة بلاغية تضيق أفق التفكير، وتجبر المتلقي على القبول بإحدى نتيجتين حادّتين، هذه الثنائية تُقصي كل سيناريوهات التفاوض أو الوساطة.
الترويج لفكرة الاستثنائية الأمريكية:
عبر التأكيد على التفوق العسكري الأمريكي، يصوغ ترامب سردية تضع الولايات المتحدة في مركز النظام العالمي، كحامية للسلام وصاحبة اليد العليا.
تبرير الشرعية الأخلاقية للضربة:
يربط الخطاب العملية العسكرية بـ"منع التهديد النووي"، ما يمنحها غلافًا أخلاقيًا ظاهريًا، رغم تعارضها مع الشرعية الدولية وموقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
البعد الإعلامي والمسرحي:
تحديد موعد للخطاب، والترويج له عبر منصة "تروث سوشيال"، وتحويله إلى حدث عالمي، يعكس بعداً إعلامياً مدروساً، إنه خطاب مخرج بعناية، لتثبيت صورة ترامب قائدًا في لحظة أزمة.
الخلاصة:
خطاب ترامب حول الضربة العسكرية لإيران يعد نموذجًا كلاسيكيًا للخطاب الإمبراطوري في العصر الحديث، خطاب يستعرض القوة، ويوظف أدوات الترهيب والهيمنة، ويُقصي الحوار، ويقدّم "السلام" كهدية مشروطة تلقى من أعلى، لا كنتيجة مفاوضات متوازنة، لكنه فى المقابل يكشف عن تجاوز واضح للهيئات والمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والوكالة الذرية، غياب تام لأي دعوة لحل سياسي شامل، اعتماد مفرط على القوة الخشنة بدلًا من القوة الناعمة أو التفاوضية.
خطاب ترامب، وإن بدا حاسمًا فى شكله، إلا أنه يحمل فى طيّاته أزمات أعمق: أزمة ثقة دولية في القانون الدولي، وأزمة انفجار محتمل في الإقليم، وأزمة تصعيد قد يكون من الصعب احتواؤها.