وسط ما يشهده الشرق الأوسط من تحولات عميقة وصراعات معقدة، تتقاطع فيها المصالح الدولية والإقليمية، تبرز الحرب الجارية بين إسرائيل وإيران بوصفها واحدة من أكثر الصراعات التي تحمل تبعات استراتيجية تتجاوز حدودها المباشرة، لتطال بنية الإقليم برمته، وفي قلب هذا المشهد الملتهب، تظل مصر بثقلها الحضاري والجغرافي والديموغرافي والتاريخي، محورًا أساسيًا في معادلة التوازن والاستقرار، كدولة ذات رؤية ومسؤولية، تدرك أن أمنها القومي يقاس بمدى عمق إدراكها للواقع واستباقها للمتغيرات واستعدادها للتموضع الواعي في قلب الإقليم.
ويعد الصراع بين إيران وإسرائيل ليس مجرد احتكاك عسكري أو خصومة أيديولوجية، ولكن صراع ممتد في الزمان والمكان، متشابك في مستوياته الأمنية والسياسية والطائفية والاقتصادية، تتداخل فيه حسابات النفوذ الإقليمي مع استراتيجيات الهيمنة الدولية، فإيران تسعى لترسيخ وجودها الممتد من طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق وصنعاء، وإسرائيل تسعى في المقابل لتحجيم هذا النفوذ باعتباره تهديدًا وجوديًا لها، خاصة مع ما تصفه بخطر المشروع النووي الإيراني، وتنامي قدرات الحرس الثوري وفروعه في المنطقة، ولاسيما حزب الله وأنصار الله.
وتتصاعد في هذا السياق المعقد العدوان الإسرائيلي علي إيران، وهو ما يجعل المنطقة كلها عرضة لاهتزازات خطيرة تطال بنيتها الأمنية والسياسية، وليس من المبالغة القول إن الحرب واسعة النطاق بين الطرفين قد يمثل أخطر لحظة استراتيجية منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، أو منذ غزو العراق عام 2003، إذ إن هذه المواجهة لن تبقى محصورة في جغرافيا محددة، بل ستتسرب آثارها إلى الخليج وبلاد الشام ومضيق هرمز، وحتى البحر الأحمر وقناة السويس.
ولأن مصر دولة محورية تقع على خط التماس الجيوسياسي بين آسيا وأفريقيا، وبين المشرق والمغرب، فإن أمنها القومي يتأثر بشكل مباشر بأي زلزال استراتيجي في الإقليم، وهنا لا بد من التذكير بأن مفهوم الأمن القومي المصري لم يعد محصورًا في حماية الحدود أو الردع العسكري التقليدي، بل أصبح يتسع ليشمل أمن المياه، وأمن الطاقة، وأمن البحرين الأحمر والمتوسط، وأمن الاستقرار الإقليمي، والقدرة على إدارة التوازنات في محيط إقليمي تتزايد فيه أوزان الفاعلين غير الدول، وتعاد فيه صياغة التحالفات وموازين القوى بشكل درامي ومتسارع.
وما تحتاجه مصر في هذا الظرف الدقيق هو تعميق استراتيجيتها الوقائية، وتنشيط أدواتها الدبلوماسية، وتحصين جبهتها الداخلية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، ورفع منسوب الوعي الجمعي بمخاطر المرحلة، بعيدًا عن التهويل والتضليل أو التبسيط، فالخطر في هذا الصراع لا يتمثل فقط في احتمالات الانفجار العسكري، ولكن فيما يحمله من ارتدادات على الأمن الإقليمي والاقتصاد العالمي، وعلى الأمن الغذائي وسلاسل التوريد، وعلى استقرار سوق النفط، وعلى الملاحة في الممرات الدولية التي تمثل شرايين حيوية لمصر، وفي مقدمتها قناة السويس، ولقد رأينا كيف أن أحداثًا محدودة في مضيق باب المندب أو هجمات متفرقة على ناقلات النفط يمكن أن تعيد رسم خرائط الطاقة والتجارة، فكيف مع اندلع حرب واسعة تشمل العدوان الإسرائيلي علي إيران وما بينهما من جبهات مفتوحة وفاعلين مسلحين؟
أضف إلى ذلك أن أي توسع في دائرة النزاع سيعيد فتح ملفات الصراعات وسيدفع باتجاه عسكرة جديدة للمنطقة، واستقطابات قد تستدعي قوى دولية إلى المشهد، في ظل تنافس أمريكي روسي صيني على النفوذ، وعودة سباق التسلح وتزايد الاعتماد على الميليشيات وهو ما يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الفوضى التي عرفتها المنطقة في أعقاب الربيع العربي وإن اختلفت الأسباب والمسارات.
وتتجلى أهمية الموقع المصري في خريطة الاستقرار الإقليمي، ليس فقط بوصفه مؤثرًا إقليميًا، ولكن باعتباره حاملًا لتوازن تاريخي وجغرافي، ومركزًا حضاريًا يجمع بين القدرة على التهدئة والقدرة على الردع والقدرة على المبادرة، فالدولة المصرية بما تملكه من علاقات متوازنة مع أطراف متناقضة، ومن رؤية عقلانية لمفهوم الدولة الوطنية، ومن إرث دبلوماسي راسخ، تستطيع أن تشكل صمام أمان في لحظة التهديد الوجودي، وأن تقدم نموذجًا للاستقرار القائم على القوة والمرونة معًا.
غير أن الدور المصري لا يمكن أن يكتمل دون جبهة داخلية صلبة، تدرك طبيعة التحديات وتعي حجم التحولات وأن الاصطفاف الوطني بات ضرورة استراتيجية، وأن الوعي الجمعي هو الحصن الأول ضد التفكك والانقسام، فحين تتعرض المنطقة لهزات كبرى، تكون الحرب الإعلامية والنفسية أخطر ما يكون، ويصبح العقل الجمعي هو ميدان المعركة الأول، سواء عبر الشائعات، أو بث روح الإحباط، أو التشكيك في الثوابت، أو افتعال الأزمات، ومن هنا فإن الحاجة تزداد إلى خطاب ثقافي وتربوي وإعلامي يرتقي إلى مستوى المرحلة، ويخاطب العقول ويستنهض الطاقات ويؤسس لعقد وطني يقوم على المشاركة والشفافية والثقة بالدولة، خطاب يشارك النخبة فيه الشارع لصوغ وعيًا جماعيًا مشتركًا.
وقد أضحي الوعي والاصطفاف الوطني شرطًا لوجود الدولة، وجسرًا للعبور الآمن نحو المستقبل، فالدولة المصرية اليوم تعد ركيزة أساسية من ركائز التوازن الإقليمي، واستمرارها في موقع القيادة يتطلب من شعبها، ونخبتها، ومؤسساتها، أن يرتقوا جميعًا إلى مستوى اللحظة التاريخية، وأن يتحركوا في اتجاه الدولة وليس بعيدًا عنها، ويدركوا أن الخطر الأعمق قد ينبع من الداخل حين يغيب الوعي، أو يتصدع الاصطفاف، أو تستهدف الجبهة الداخلية بالتشكيك، فالصراع المتصاعد بين إسرائيل وإيران، وما ينطوي عليه من احتمالات الانفجار الإقليمي، يضع المنطقة برمتها أمام لحظة كشف استراتيجي واختبار وجودي، تختبر فيه المجتمعات على مستوى القوة فقط ومستوى الوعي، والتماسك، ورجاحة الرؤية.
ونؤكد أن المجتمع المصري، بتاريخه وصموده، وعمق حضوره، مدعو إلى أن يُثبت من جديد أنه قادر على تجاوز اللحظات العاصفة بالحكمة، والاستيعاب، والعمل الجمعي، إنها لحظة فاصلة في تاريخ الإقليم، ومصر كما عرفها التاريخ لا تكتفي بأن تكون شاهدة على الأحداث، بل تكتب حضورها الفاعل بمواقف تحمي جوهر الدولة، وتصون استقرارها، وتمنحها القدرة على الاستمرار والتأثير، بما يليق بثقلها الحضاري، وعمقها الجغرافي، والسياسي والإنساني.